يزعم كل شخص بأن له قيماً ومبادئ يلتزم بها ويرى ضرورة التزام الآخرين بمضمونها أيضاً، لكن تصريح الإنسان ودعوته للالتزام ببعض القيم التي يتفق المجتمع الذي يعيش فيه على أهميتها لا يُمكن أن يؤخذ على محمل الجد إلا بعد تعرضه هو لمواقف تكون هي المحك في إثبات التزامه بتلك القيم أو قيامه بفعل ما يُخالفها، فالشجاع لا يمكن التحقق من شجاعته إلا في ساحة المعركة أو في المواقف التي تستدعي اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة يؤدي اتخاذها لنتائج غير متوقعة قد تؤدي للإضرار به، وكذلك لا نستطيع الحكم على الشخص بالأمانة إلا بعد اختباره ووضعه في موقع يمكن من خلاله قياس مدى أمانته، وقد أشار الشاعر المبدع مدغم أبو شيبه في إحدى قصائده إشارة عرضية إلى أن الواقع –لا الكلام- هو الذي يكشف حقيقة التزام الشخص بالقيم والمبادئ التي يجهر ويدعو للالتزام بها، يقول أبو شيبه: اللي معه دفتر سندات وفلوس ويرهن مقابلها كرامه وذمه يعطيك فالحسنى ندوات ودروس ويصرف لك الأخلاق من راس كمه إن عاف ما كن الطمع فيه مغروس وإن طمع في حاجه نسى أبوه وأمه الشعراء –إضافة إلى الدعاة والكتاب- هم أكثر من يُصرح في مجتمعنا ويتغنى بالقيم العليا: كالصدق والقناعة والإخلاص والأمانة والعفة والكرم والشجاعة وغيرها من القيم التي نجتهد للالتزام بها وتغوينا نفوسنا الأمارة بالسوء بمخالفتها، لذلك حين يزل أحدهم ويقوم بارتكاب ما يُخالف القيم التي يُطالب الآخرين بالتزامها يجد من الهجوم واللوم والتشهير أضعاف ما يجده غيره انطلاقاً من قول الشاعر أبي الفنن: وإنّ أحق الناس باللوم شاعرٌ يلومُ على البخلِ الرجالَ، ويبخلُ أما في حالة اقتراف الشخص البعيد عن تلك الاهتمامات لأي ممارسات سلبية تخالف قيم المجتمع فإن ردة الفعل إزاءها ستكون أخف وأقل حدة، فالبعض يستنكر أخطاء الشعراء ويضخمها مع أن الشاعر إنسان كغيره من البشر وليس معصوماً من الوقوع في الأخطاء ومعاودتها، وكل واحد منّا مطالب قبل إصلاح الآخرين ودعوتهم إلى القيم والفضائل أن يتأمل أبيات أبي الأسود الدؤلي الرائعة التي يقول فيها: يا أيها الرجلُ المعلّمُ غيرهُ هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ تصفُ الدواءَ لذي السقامِ وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتي مثلهُ عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ فهذه الأبيات البديعة تؤكد على أهمية انطلاق أي شخص يرغب في الإصلاح من نفسه لكي تُستقبل رسالته بالترحيب وتكون رسالته أكثر اقناعاً وقبولاً من الآخرين.