قبل أكثر من ثلاثين عاماً كتبتُ تحت هذا العنوان .. كنت في زيارة للأحساء مع الدكتورة ثريا العريض، لنشارك في ندوة اجتماعية لعدة محاور من بينها محور عن العمالة المنزلية والآثار المتوقعة بسببها.. كنا قد حضّرنا جيدا للندوة، وتوقعنا حضورا جيدا إذ منطقة الأحساء مشهورة بحيويتها. الذي حدث أن المطراستقبلنا، والمطر موسم فرح وسعادة، ولكن ذاك أعاق أغلب الحضور، بسبب تكون البرك في الشوارع .. وبما ان أغلب محاور الندوة موجهة للأسرة ككل فلم يحضر من السيدات إلا عدد قليل جدا، وهن اللواتي تربطنا صداقات معهن .. ما جعلنا نشعر ببعض الأسى خاصة ان الحضور الرجالي كان جيدا، لذا داخلت إحدى الحاضرات بقولها : لو كل واحد أحضر زوجته لكان هناك حضور جيدا .. ذاك الأمر عاد لذاكرتي هذه الأيام نظرا لما صار استقبال المطر لا كهبة إلهية عظيمة تطل على روحنا بالسنة مرة، يغسل الشجر والأرض ونتمنى أن يتغلغل في قلوبنا ليحررها من الجفاف، يعطينا أملا بعشب اخضر ورحلات برية جميلة، وفرصة للتخيم بعيدا عن الضوضاء.. كما شكل في انفسنا رؤية الكمأ، والذي فرحة العثور عليه تهبنا سعادة جميلة كسعادة مفاجأة لطيفة ... كل ذلك يبعث بنا سؤالا قويا: لماذا صار المطر وحشاً علينا الهروب من دربه ؟ لأننا لم نفكر جيدا بمجرى السيل، وطريقه سواء للبحر أو للمسارب التي تحفظ ماءه لوقت الحاجة. وسدودنا لم تختلف عن سد مأرب .. أم لأننا بنينا الحواجر في طريقه، لذا المطر لا يفكر بنا عندما يسير بطريقه نحو البحر. يمكن أن بناء منازلنا لم يعد كما كان قبلا يتحمل المطر ويتشربه كما كان مع منازلنا الطينية قبلا مع المزاريب الخشبية أو الحديدية .. وكيف كانت تلك البيوت تتحمل، فيما البيوت المسلحة تعلن تهالكها أمام المطر .. قبل هذا وذاك، ما أثار خوفنا من المطر، وكيف حولناه لوحش كما لو كان فاغرا فمه، ليبتلعنا! هذه المخاوف لم تأت من فراغ، عندما تأتي الذكريات مؤلمة عن غريق جدة، بيوت غرقت بشباب وأطفال، عندما تكون المباني على مجاري السيل. عندما تغص المجاري، فتكون الشوارع عبارة عن جداول قذرة، وتبدأ السيارات تحرن في الطريق، ويكون الدوام صعبا. فلابد من الخوض . بل وأكبر من ذلك تعطل المدارس والجامعات وكأننا في حالة طوارئ .. حتى لا تكون مقابر. عندما تتعرى بعض أسلاك الكهرباء فتكون مصيدة .. هذا وغيره يجعل يوم المطر، ليس يوم فرح ترقص الفتيات الصغيرات به تحت وابله (مطر.. مطر عاصي .. طول شعر رأسي، رأسي بالمدينة يجيب تمرة وتينه ) وغيرها حيث كل منطقة لها أهازيجها في المطر .. قد تختلف الكلمات ويبقى لحن حب المطر .. لكن الأمور تغيرت كثيرا مع المطر .. الخوف من المطر كما قاله شاعر جيكور السياب: (تعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟ وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟ بلا انتهاء - كالدَّم المراق، كالجياع ، كالحبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر ! ومقلتاك بي تطيفان مع المطر وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ، كأنها تهمّ بالشروق) فهل يا ترى سيفتح المطر جروح غرق جدة، وهل سيكون الألم مضاعفاً مع كل دفقة مطر؟! الذكريات تنهار، اللهم رحمتك .. على كلّ أنا لا أتهم المطر..