في رواياتنا الشَّعبيّة هُناك مَثَل يقول: (حتَّى المَطَر لَهُ مُحبّ وَكَارِه)، ولكن في حالة «السّيول الجدَّاويّة»؛ ليس للمَطَر إلَّا الكَارِهُون، لا يفرح بأضراره إلَّا القوم الشَّامتون! حسناً.. يقول شاعرنا الكبير «نزار قباني»؛ -في حضور المَطَر وغياب الحبيبة-، البيان التَّالي: أَخَافُ أنْ تُمْطِرَ الدُّنيا ولَسْتِ مَعِي فَمُنْذُ رُحْتِ وَعنْدِي عُقْدَةُ المَطَرِ * ثُمَّ يقول والمَطَرُ يتساقط: الآنَ أَجْلِسُ.. والأَمْطَارُ تَجْلِدُنِي عَلَى ذِرَاعِي، عَلَى وَجْهِي، عَلَى ظَهْرِي * وبعد غياب الحبيبة يتساءل الشَّاعر: فَمَنْ يُدَافِعُ عَنِّي.. يا مُسافِرَةُ مِثْلَ اليَمَامةِ، بَيْنَ العَيْنِ والبَصَرِ! وكَيْفَ أَمْحُوكِ مِنْ أَوْرَاقِ ذَاكِرَتِي وأَنْتِ في القَلْبِ مِثْلَ النَّقْشِ فِي الحَجَرِ! هكذا يقول «نزار».. ولكن ماذا يقول ذلكم الأب؛ الذي فقد أولاده أو بعضهم، في كارثة «سيول جُدَّة»! إنَّه ينظر إلى صورة ابنته؛ التي ذهبت ليس «مع الرّيح»، بل مع «المطر» والسّيول، ليقول لها: آه يا ابنتي.. لقد صارت عندي عُقدَة تُسمَّى «عقدة المطر»، لأنَّه يُذكّرني بكِ وأنتِ الحاضرة الغائبة! ولو توغَّل في الذِّكرى، فستتحوّل الذّكريات إلى أمطار، تُثير الشّجون والأحزان، كيف لا وهو يَصرخ قائلاً: الآنَ أَجْلِسُ.. والأَمْطَارُ تَجْلِدُنِي عَلَى ذِرَاعِي، عَلَى وَجْهِي، عَلَى ظَهْرِي إنَّه مجلود «بالذِّكرى» على قلبه، ومجلود بغياب «الصَّرف الصّحِّي» على وجهه.. ومجلود بسبب فُقدان «تصريف الأمطار» على ذراعه وظهره! يجلس هذا المسكين الذي فقد فلذة كبده؛ غرقاً بالسّيل قائلاً لها: فَمَنْ يُدَافِعُ عَنِّي.. يا مُسافِرَةُ.. وهُنا يُمكن أن تكون هذه المُسافرة هي «البنت الغريقة»، ويُمكن أن تكون هي «الحلول» التي مِن شأنها أن تُدافع عن الغريق وأسرته.. إلخ، ولا غرابة فالخيال العربي يتحمَّل كُلّ شيء، وإذا أردتَ الدَّليل فانظر إلى قولهم: «بحيرة المسك»، أكرمكم الله.. إذ كيف يُقال المسك ثم يتبع بقول: أكرمكم الله.. وطالت هذه القضيّة اللغويّة، حتَّى جاءت فيها فتوى تُحرِّم مثل إطلاق «بحيرة المسك»؛ على «بحيرة الصَّرف الصّحِّي» في جُدَّة! في النَّهاية.. ماذا بقي..؟! بقي قول «نزار قباني» حين قال: وكَيْفَ أَمْحُوكِ مِنْ أَوْرَاقِ ذَاكِرَتِي؟.. إذا كانت الجملة تُشير إلى مَحو ذكرى تلك «الطّفلة» التي غَرقت، فلا وألف لا، أمَّا إذا كان المُراد نسيان كارثة السّيول؟ فأيضاً ألف لا، لأنَّ نسيانها يُشجِّع على تكرارها.. والمُؤمن الذَّكي الأمين لا يَغرق في السّيل مرَّتين!.