دائمًا مانجد أنفسنا أمام مفارقة ممّا تجود به الحياة من مواقف، تجعلنا ننتهي إلى الشعور بالسخرية سواء أصابتنا تلك المفارقة بالحيرة أو بالدهشة أو بالخداع. وأصل المفارقة قائم على وجود انحراف ظاهري، أي عدم انسجام بين عنصرين أو أكثر من مكوّنات الحدث. ونتوقّف عند إدراك هذا اللقاء بين عنصرين يبدوان متنافرين أو متوازيين أو مختلفين؛ فنجد في ذلك فكاهة (كما في النكتة) أو نشعر بفزع (كما في الحوادث المفاجئة)، أو نحكم عليه بالخطأ. ولكن هذه المفارقة يمكن إعادتها إلى الانسجام إذا اكتشفنا أن هناك عناصر أساسية في المشهد لم ندركها لأنها محذوفة أو متوارية أو مقنّعة. إن مدح العيب يمكن أن نجد فيه مفارقة لأن المدح يكون مع الصواب والجمال، والذم مع العيب والقبح. ولكي نفهم مايبدو لنا أنه عدم انسجام، دعونا في الأسطر التالية نتأمّل الموضوع معًا. فالمدح سلوك إنساني يقوم - في الأصل - على تقدير الجمال. وهذا التقدير لابد أن يسبقه "إحساس" بهذا الجمال. والإحساس هو العنصر الأساسي الذي ترتكز عليه عملية التقدير بأكملها. على أن الإحساس عملية عقلية ونفسية معقدة لأنها - بذاتها - نتاج ما يُعرف ب"رؤية العالم" لكل فرد من الأفراد، ولكل مجموعة أو عرق أو شعب..إلخ. وتتشكل رؤية العالم عند كل واحد منّا بناء على عوامل فطرية وأخرى ثقافية تضم كلًا من التجارب الشخصية التي نواجهها في حياتنا، والخبرات التي نكتسبها مع كل تجربة، يُضاف إليهما المتغيرات الجسديّة والماديّة والنفسيّة التي تطرأ علينا فتُعيد صياغة تجاربنا وخبراتنا من جديد. وإذا ما أخذنا من الحياة مثالا بسيطًا ربما مرّ بالكثيرين، وهو الإحساس الذي ينتابنا عند سقوط المطر، فسنكون أمام لوحة متنوعة من أشكال تلقي هذا المطر. ولو جمعنا استطلاعًا لآراء الناس لقياس مشاعرهم (نظريًا) حينما يُسألون عن ذلك، ومقارنتها بمشاعرهم (عمليًا) وهم يعيشونها في لحظة هبوط المطر، سنجد أننا أمام تصنيفات كثيرة، لعل أبرزها إما الفرح والابتهاج الشائع في مجتمعاتنا الصحراوية، وإمّا الانقباض والاكتئاب في بعض المجتمعات الغربية التي لم ينقطع عنها المطر. ومع هذا، فلكل فرد مزاجان متداخلان: أحدهما مزاج طفولي مرتبط بشخصيته، والآخر مزاج آني مرتبط بالموقف.. إن تجاربنا في الطفولة لايمكن محوها من العقل الباطن حتى لو نسيناها مع الزمن؛ وخاصة التجارب التي تُسجّل في الذاكرة، ولو افترضنا أن شخصًا اعتُدي عليه وصادف ذلك وقت هطول المطر فإن هذه التجربة المأساوية تظل تُطلّ بشبحها مع كل مثير خارجي له صلة بالمطر. أما المزاج المرتبط بالموقف، فهو شكل متقلّب يأخذ صيغته من المتغيرات؛ فربما يعتاد شخص على الابتهاج بالمطر، ولكنه قد يشعر بالحزن مع المطر في مرّة من المرّات لأن ذلك ترافق مع فقدانه لعمله مثلاً، أو لأن المطر صار حدثًا يذكّره بعزيز مفقود. ومن هذا المنطلق، نفهم اختلاف الإحساس المصاحب للحدث عند كل واحد منّا، وما يكمن وراءه من رؤية للعالم، ونعرف سرّ الخوف من المطر في قصيدة نزار قباني التي يقول فيها: أخاف أن تُمطر الدنيا ولست معي فمنذُ رحت.. وعندي عقدة المطر وإذا كان السبب واضحًا مع نزار قباني، فإنه متداخل وغامض عند بدر شاكر السياب في "أنشودة المطر"، لأننا أمام مزاج طفولي وآخر آني متصلين ببعضهما البعض ومختلطين مع سلسلة من التجارب الحسية والمعنوية. فنجد أنفسنا مع مطر السيّاب أمام لمحة من دموعه ودموع أمّه التي فقدها وهو طفل، وأمام إيحاء بالماء والمزارع والشواطئ المأخوذة من محيطه، وأمام رموز للمطر تتمثل في العرق والتعب والإعياء. كما نجد أنفسنا أمام رمز الموت في الدم المراق وأمام رمز الحياة في ماء الأجنّة. لقد كان سؤاله عمّا يحويه المطر من حزن سؤالا مفتوحًا على احتمالات كثيرة بعضها يتعلّق بالمخاطب وبعضها يتعلق بالمحتوى وبعضها يتعلق بالبطل، يقول: أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟ وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟ وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟ هل كان يخاطب أمّه التي تركته وحيدًا، أم يخاطب فتاة جمعته معها ظروف المطر، أم يخاطب زوجته التي لم تفهمه أبدًا، أم يخاطب كيانًا مؤنثًا يُعرّفه على نفسه؟ وإذا ماعلمنا أن اللغة تؤنث بعض الكيانات المهمّة كالأرض والسماء والجنة والنار والشمس والنجوم وأعضاء الجسد الإنساني وكذلك الكيانات الغامضة كالروح والنفس، فمن غير المستبعد أن يشملها كذلك توجيه الخطاب. أما المحتوى فهو الحزن ومايتصل به من عناصر حسية كالمطر والنشيج، أو عناصر معنوية كالوحدة والضياع. ثم من هو بطل هذا الحدث؟ هل هو شخص الشاعر أم شخصيته أو نموذج افتراضي؟ وهو في كل الحالات يمثل نمطًا واقعيًا قابلًا للتكرار مع أشخاص آخرين. إن الإجابات الممكنة عن ذلك السؤال تولّد أسئلة أخرى، وكل سؤال يفتح بوّابة واسعة من الاحتمالات التي يجتهد كل واحد منّا في تخمينها. وهنا نأتي إلى محاولة فهم رؤية العالم عند هذا الشاعر التي جعلته يجد أن صوت انهمار المطار من المزراب (أو المرزاب) هو صوت نشيج وليس إيقاع لحن موسيقي مثلا. إن شاشة عقل السيّاب هي التي رأت المطر وسمعت صوته ثم عكسته لنا بهذا الشكل. وليس مطلوبًا من شخص ترى شاشته الحدث نفسه بشكل آخر أن يُخطّئ السيّاب أو يلومه أو يفترض معطيات مجلوبة من واقع مختلف عن واقع الشاعر. ماذا يعني هذا؟ يعني أن الذي يمدح شيئًا، فإن مدحه منطلق من رؤيته لذلك الشيء الذي وجد فيه الجمال، وليس من حقّنا أن نقول له إنك على خطأ لا لشيء إلاّ لأن شاشة عقولنا لم ترَ ذلك الجمال، «فللناس فيما يعشقون مذاهب». وبالمثل، فإن من يعيب شيئًا فقد رأى عيبًا لم نره حتى لو كان ذلك العيب مُتوهّمًا أو مُصطنعًا، فكل يرى "العالم" بعين طبعه..