إذا ذَكرتْ نجداً وطيب ترابها وخيمة نجدٍ أعولت وأرنَّتِ فاح ريح العود واروحت الشذا والتقت وصابني سهم خطير العرب أمة شاعرة.. هزَّت صحراؤهم الشاسعة أفئدتهم، ولوّعت بتقلباتها مواجدهم، وحركت بنقاء بيئتها أصالتهم، وقوّت بتحدياتهم صلابتهم، فجرت بجمالها مواجعهم.. الصحراء بجبالها الشمّ الشامخة، ورمالها المرسومة الناعمة، وسمائها المرصَّعة بالنجوم، في الليل الخرمسي البهيم، تجعلهم يفكرون، ويشعرون، تهز منهم العقل والقلب وتفتح الوجدان، فإذا بهم يعبرون عن خوالجهم ببساطة شاعرية، وتقذف أفئدتهم صوراً ساحرة، مفردة ومركبة، لكنها غير متكلفة، هي في نقاوة الصحراء ووضوحها، ولكنها في عمقها واتساعها، فأشعار الفحول من العرب القدماء، هي من السهل الممتنع، من الجمال الذي يحس ولا يوصف.. * لذلك كان الشعر الجاهلي أكثر حداثة، وأقل تعقيداً وتكلفاً من الشعر العباسي، فضلاً عن أشعار القرون الوسطى التي طغى فيها الشكل على المعنى، وصار البديع فيها هدفاً على حساب المعنى والشعور، والمحسنات اللفظية غاية لا وسيلة لتصوير الشعور الصحيح، وإيصال العاطفة الصادقة بشكل فني جميل بعيدا عن التصنُّع.. يقول الأعشى في وصف محبوبته وطيب رائحتها، منطلقاً في تصويره من بيئته الجميلة، حيث الرياض العابقة بالمسك، الضاحكة للغيث، الغانية بالنبات والزهور البرية ذات الرائحة الطيبة الفواحة التي تذكر مرتادها بالفراديس: ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبلٌ هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بعميم النبت مكتهل يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل) فما أجمل الأصيل وقد كسا الروضة الخضراء ببقايا الشمس الغاربة وداعبها بقطرات المطر الساربة حيث بدت السماء ملونة بالسحب ساحرة الشفق وابلة المطر والروضة الخضراء تموج مرحاً وسعادة، وتفيض مسكاً وراحة، ويهب عليها نسيم النعيم حاملاً ريحها الجميل، ناما عن معدنها الأصيل، عابقاً بالنشوة والمرح يمر على الوجوه والأنوف والأذان والعيون فيشبعها مرحاً وفرحاً، فالمنظر الساحر سعادة للناظر من الداخل والخارج فالقلب يفرح والحواس تمرح، والروح تنتعش، والوجدان يتفتق عن أنبل المشاعر وأجمل الصور.. وما أروع قول الأمير خالد بن سعود الكبير: فاح ريح العود واروحت الشذا والتقت وصابني سهم خطير من غزال ما نواي بالأذى لكن الأقدار ما عنها مطير اشهد انه يا عرب مني خذا ما بغاه وقادني قود الأسير أسمر الخدين من نجد اغتذى بالحلى والملح والسحر الغزير قلت له: يا فاتني ما هكذا يفعل المأمور في حق الأمير قال: شرع الحسن يا سيدي كذا ما يراعي لا كبير ولا صغير ماضي حكمه على هذا وذا وأنت تدري باليها ما أنت غرير قلت: ما تعطف على صب جذا للجمال الغض والحسن الأثير حبذا نفحة أمل يا حبذا ترجهنَّ بها لجاجات الضمير لا تخلّيني تراها لي غذا خاف قلبي من معاليقه يطير قال انا قلبي مثل قلبك هذى واهتوى لكن عواذلنا كثير والعواذل ما يخلّون البذا للكلام يجرهم سلك الحرير والتفت للي وقف جنبه حذا يستشير.. وشار بالبعد الشوير واختفى خشف الغزاله واحتذى بالرفيق اللي يتله للمسير ويل قلب كلما فاح الشذى ذكرّه ريح الشذا سهم خطير) ونجد أن الشعر الشعبي الأصيل امتداد للشعر العربي القديم في وضوحه الشاعري، وتأثره بالبيئة، وبعده عن التكلف والتعقيد.. يقول إبراهيم بن مزيد: يا هل الهوى حذراً تمرون (خيطان) الموت فيه مركّزات خيامه فيه المهار اللي بلا سرج وعنان بنحورهن لاهل الموده علامه نهود جلاّس تقل طلع رمان عفرن يشادن البدر في تهامه كذلك فإن اللقاء في صحراء العرب يلد الحب كما يلد الزهر العطور.. لقاء منذ الصغر في بيئة شاعرة يلامس أرواحاً طاهرة فيملؤها بالحب والحنين، ويمضها بالوجد والشوق، خاصة أن صحراء العرب تفرِّق بعد اجتماع، ويصعب فيها زواج العشاق، لهذا نجد قيس بن الملوح يقدم لنا صورة وجدانية صارخة التعبير: فما وجد أعرابية قذفت بها حروف النوى من حيث لم تك ظنت إذا ذكرت نجداً وطيب ترابها وخيمة نجد، أعولت وأرنَّت تمنت أحاليب الرعاء وخيمة بنجد فلم يقدر لها ما تمنت بأكثر مني حرقة وصبابة إلى هضبات باللوى قد أظلّت إذا ذكرت ماء العضاة وخيمة وبرد الضحى من نحو نجد أرنَّت لها أنَّه بعد العشاء وأنه سخيراً فلولا أنتاها لجنت بأوجد من وجد بليلى وجدته غداة ارتحلنا عدوة واطمأنت