جمعتني بها الصدفة، كنا في اجتماع عزاء، وكان اليوم الثالث، حتى أهل المتوفى كفكفوا دموعهم وبدأوا يتفاعلون مع الأحداث من حولهم، أما هي فكانت دموعها الغزيرة وشهقاتها العالية مثار تعجب الحاضرات ودهشة أهل المتوفى، ولم نلبث إلا قليلاً حتى عرفنا أن دموعها وحزنها كانا الوشاية عن القهر الذي تعيشه والوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تنفس بها عن همها الشخصي في جو حزن يتناسب مع حزنها.. شابة ما زالت صغيرة دخلت عش الزوجية حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها وأنجبت أربعاً من الأطفال، لم تتلق تعليماً كافياً وليس لديها في الحياة غير زوجها جنتها ونارها ويبدو أنه اختار أن يظل نارها عن جدارة، أذاقها وما زال صنوفاً من القهر والعذاب حتى ناءت بحملها وبدت هي ابنة العشرين في الخمسين من عمرها.. طبعاً لم تعدم بطلتنا الباكية وجود من يوصيها بالصبر ولم تمض دقائق حتى كانت قصص القهر بكافة الصنوف والأشكال تخرج من ثنايا العباءات السوداء وتتقافز في الهواء المكتوم داخل غرفة العزاء، ولم تنس كل امرأة أن تذيل قصتها الحزينة بعبارة «اصبري يا بنتي، لم تري شيئاً بعد»، كنت أراقب الوجوه المتغضنة وهي تهدي للوجه الشاب التجربة تلو الأخرى في العض على الصبر بالنواجذ مهما حدث..!! خيانة؟ عنف؟ بخل؟ لا مبالاة؟ هجر؟ شح في العواطف؟ تقصير في الواجبات.. خذي يا صغيرة حتى تشبعي وقارني بين ما تسمعين وبين ما أنت فيه واحمدي ربك واسكتي واصبري..! كانت الملهاة الدائرة لا تعني إلا مزيداً من القهر، كن جميعاً يركزن على تزيين النعمة التي تحيا فيها الصغيرة مقارنة بغيرها ولم تحاول واحدة منهن أن تزرع فيها ولو مجاملة بذرة تقدير ذات، جميعهن تجاهلنها في الوقت الذي تصورن فيه أنهن ينصحنها ويهتممن لأمرها، احداهن هرعت إليها واخذتها بين ذراعيها تكفكف دموعها وهي تطلب منها الصبر.. قلت لها: إذا كنت تريدين البكاء فابكي حتى ينفطر قلبك فلن يتغير من الأمر شيء، ولكن إذا كنت تبحثين عن حل فانهضي وانفضي حزنك وحاولي إكمال تعليمك أو ادعمي مهاراتك واصقلي مواهبك وحاولي تطوير ذاتك، تطلعي حولك فالحياة أوسع من ثقب الابرة الذي تنظرين منه، لا تجعلي من معذبك محوراً لحياتك تدورين حوله ولا يدور هو حولك، هناك أطفال، أهل، جيران، مهارات وهوايات، قراءة، مشاهدة، ملاحظة.. لماذا سجنت نفسك في سجنه واستسلمتِ لكل هذا اليأس كأن الحياة ستتوقف لو لم ينعم عليك باهتمام؟ الحب يا صديقتي رائع لكن الحياة تمضي به أو بدونه، والبداية أن تحبي نفسك ولعلك إذا ما أحسنت معاملة ذاتك وجدت في نهاية المطاف التقدير الذي تبحثين عنه في قلب زوجك ولكن ليس قبل أن ترسخيه في قلبك أنت. [email protected]