هل هو العمر الذي شربناه حتى ثمالته، ودخلنا في خريف أيامه بما فيها من شحوب ونضوب وأوراق متساقطة وإيحاءات باقترابنا من النهايات الحتمية، وملامسة الحقيقة المطلقة في الوجود؟ أم هو ذلك الزمن المبهج الباذخ في فرحه، المترف في تفاصيله الحياتية، وما أنتجه من علاقات حميمية، ونضالات في اكتساب المعرفة وأدوات التأسيس إن من تجارب الآخرين وحكمتهم، وإن من الكتاب، ووقتها لم يكن غير الكتاب وسيلة معرفية وثقافية؟ أم هو كل هذا وذاك وسواهما ما يثير الحنين الموجع إلى الزمن الذي توارى كالسحب الثرية بالفرح مزقتها رياح الشمال القاسية، وتركت الكائن يعيش الحلم لا يطاله، ولا يرتجيه، ولا يأمله، وإنما يعيش الحسرة المشوبة بفقدان الرجاء في تغيّر الحالة، وما يحرّض على تواجد الخصب والنماء والفرح، ويغسل الإنسان من متاعب الحياة، ويخفف أوجاعها؟ ربما هو العمر، وربما هي الإحباطات والانكسارات والخيبات التي تضافرت وغرست نصلاً حاداً لتغتال أحلامنا، وطموحاتنا، ورغباتنا، وآمالنا في استشراف مستقبلاتنا على نحو صادق ومبهج، وما مُنينا به في برامجنا وخططنا التنموية من تخبّط وفوضى وعبث وكذب ودجل وتضليل عاهر من بعض أجهزتنا التنفيذية، ومن قدموا أنفسهم مخططين ومنظرين واستراتيجيين يقودون التنمية من مكاتبهم المبرجزة، ليس أقلهم من قال بلا حياء في محفل رسمي به نخب الجامعات والفكر والأدب والاستشراف: "إن المملكة تعيش على بحيرة من الماء كميتها تعادل كمية تصريف مياه النيل لمدة خمس مئة عام!!" "ولّ عليك" أما تستحي، أو ترعوي، أو تفكر، وعلى من تضحك..!! إلى أين من هنا..؟ لقد أثار الدكتور محمد السعود وكيل وزارة الكهرباء والمياه لشؤون المياه في النفس حسرة، وأعاد الذاكرة إلى زمن مضيء حين تكلم خلال "ندوة الثلاثاء" التي ستنشر قريباً - والزميل د. أحمد الجميعة يحمل همها، ويعيش هواجس موضوعاتها -، تكلم د. السعود بحسرة عن شراستنا وعبثنا في استخدامات المياه للأغراض الزراعية، واستدعى نصاً جميلاً لاستاذنا ومعلمنا وموجهنا الشيخ عبدالله بن خميس - رحمه الله - عن عيون الأحساء، وبالذات عين "أم سبعة"، حين كانت الأحساء تتباهى بعيونها، وتسبح في بحيرة من العذوبة المائية، والحياتية، والبشرية، مما جعل الذاكرة تعود سريعاً إلى تلك الأمكنة، وعهد الصبا في الأحساء، وأتذكر أم سبعة، والحارة، وأم خريسان، وعين نجم، وعين حقل، والخدود، وعشرات العيون، وما كانت تمثله هذه العيون في الذاكرة الجمعية الإحسائية، والحياة في الهفوف والمبرز، من تألق وإنتاج وعطاء لأن الإبداع والخلق يقومان أكثر في البيئات المائية، وهي الآن تعيش الجفاف والنضوب في مياهها، وانحسار الزراعة فيها. لقد غابت الرؤية لدينا، وانعدمت الاستراتيجيات ففرطنا كثيراً في ثرواتنا ومقدراتنا ومخزوننا من الأمن المائي والإنتاج الزراعي، وعبثنا بشكل سفيه في المياه الجوفية، وجففنا كل المصادر والمنابع حتى وصلنا إلى وضع مشفق، ومحبط، والمؤلم أن العبث لايزال مستمراً، والهدر قائماً، ولا نزال نفكر ونخطط على الورق لمستقبل الزراعة والمياه. إنها أوجاع على زمن مضى، وذاكرة متخمة بالأشياء الجميلة في الحياة بالأحساء، وخوف على مستقبلاتنا المائية، يحمل بعض هذا التخوف وأسراره د. محمد السعود وهو عقل ورمز وطني، لكني لن أسامحه على ما أثاره عندي من آلام، وتفتتات، وانهيارات.