عندما تأملت عنوان هذا الكتاب «منزل أسامة بن لادن» أحسست أنه ربما يحمل أكثر من دلالة.. فهو بالإضافة إلى كونه عنواناً مثيراً، وبمنطق أي ناشر، يمكن أن يكون تجارياً ؛ لكنه أيضاً يعطي دلالة أخرى على كون أفغانستان كلها هي منزل أسامة بن لادن الذي يستطيع أن يختفي في جزء خفي منه لا يستطيع أحد أن يصل إليه.. ربما. لكن الحقيقة أيضاً أن هذا الكتاب لا يمثل فيه النص الذي كتبه المصوران «بن لانغرادز وفيكي بيل» إلا نصف الموضوع.. أي أنه نص قد يبدو مكتملاً عند قراءته، لكنه، بعد تأمل الصور، يبدو مبتسراً، قاصراً على القدرة عن التعبير، أو على الأقل يبدو وكأنه عبارة ناقصة تستكملها الصورة وتحدها بالبلاغة اللازمة.ولعل الشعور الأساسي الذي يشعر به متلقي هذا الكتاب، بعد تأمل الصور، هو الإحساس بمدى قسوة الطبيعة والجغرافيا والظروف والاقتصاد في هذا البلد. في قلب المدن - كابول أو غيرها - تبدو البيوت بسيطة ومتقشفة في عمارتها، وأغلبها دمرته الصواريخ والقنابل وطلقات الرصاص. أما الوجوه فتعتليها مسحة من البؤس، وكأنها تعكس شقاء السنوات التي قضتها في الحروب وتعاسة الحاضر الذي يكاد أن يكون مأساة حقيقية والمستقبل المظلم الذي تشير له كل المؤشرات بعد تحول أفغانستان ملجأ لرموز تنظيم القاعدة وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.وهو ما قد تعبر عنه يوميات «لانغلاندز وبيللي» بشكل آخر.. ففي يوميات يوم الأحد 31 أكتوبر عام 2002 يقولان: أثناء تناول وجبة الإفطار كنا نسمع اثنان من الأمريكيين يتحاوران مع سيدة أفغانية ترتدي زياً عصرياً وتغطي رأسها بوشاح، كانوا يتناقشون بحماس حول مدرسة خياطة للفتيات كانت قد افتتحت حديثاً وزاروها في اليوم السابق. كانت الفكرة مؤسسة على احتياج الكثيرات من الفتيات الأفغانيات لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، وهو ما يمكن أن يحققنه بتعلم الحياكة والتطريز باستخدام آلات الخياطة الكهربية القديمة. وبينما كان نصف عدد الفتيات يقمن بالتدرب على الماكينات كان النصف الآخر منهن يقمن بتدوير موتور كهربائي بأقدامهن لتوليد الكهرباء اللازمة لتشغيل الماكينات. كانت الصورة قوية ونبرات صوت المتحدثين الحماسية دفعتنا لكي نسأل السيدة الأفغانية عن إمكانية زيارة هذه المدرسة. استدارت لنا بسرعة بينما تلتمع عيناها ببريق وهي تسألنا: «ماذا تفعلان هنا في أفغانستان»؟ وأوضحا لها طبيعة العمل الذي يقومان به لصالح متحف الحرب الإمبريالي، والصور التي يحاولان التقاطها وتفاصيل المشروع فقالت: «لقد سأم الأفغان حتى الموت كل هذه الدراسات والأبحاث.. نحن نحتاج إلى المساعدة.. إلى النقود.. وليس المزيد من البحث». عندما انتهت من حديثها قامت واستدارت وخرجت من الفندق وبعدها وقف الأكاديميان الأمريكيان الآخران.. ثم اعتذرا عن تصرف السيدة وخرجا خلفها. أما لانغلاندز وبيل فكان كل ما قالته لهما السيدة يبدو منطقياً ومعقولاً إلى حد بعيد. فمنذ بداية هذا القرن، اتجهت أنظار الإعلاميين والأكاديميين والباحثين والمؤرخين إلى أفغانستان وأجريت عشرات الأبحاث حول أوضاع المرأة الأفغانية وأحوال المجتمع الأفغاني في ظروف الحرب ومستقبل الأطفال وتاريخ الحضارة والتراث الفني وغيرها. ولكن ماذا عن المساعدات التي قدمتها الجهات المهتمة بشكل فعلي للأفغان؟ يقول المؤلفان في نص يومياتهما على الرغم من كل الوعود ذات النبرات الصارخة بالمساعدات والتعاون والدعم والتي تمتعت كلها بطابع دولي عالمي فإن ما لمسه الشعب الأفغاني منها على أرض الواقع لا يكاد يذكر. وكان أحد النتائج الجزئية لهذه الظاهرة أن جنرالات الحرب كانوا يتمتعون بالسيطرة على البعد لأنهم كانوا يبدون بالنسبة لبعض الناس باعتبارهم يمتلكون أفضل فرص للتوظيف في ظل الوضع العام. وكان أي رجل أو حتى فتى في صباه يمكنه أن يوفر دولاراً يومياً إذا كان يمتلك بندقية. بعد انتهاء الإفطار توجه لانغلاندز وبيل إلى فرع الصليب الأحمر القريب، وكان الهدف التعرف على التعليمات الأولية لتجنب الخطر في أفغانستان، أوضح لهما الشخص الذي استقبلهما هناك أنها تتمثل في تجنب السير في الطرق غير المأهولة، أو الخروج ليلاً، وأن يدققا النظر إلى الأرض أينما سارا. وبعد خروجهما لاحظا انتشار الكثير من اللافتات التي تخص المنظمات الدولية والمكتوبة عليها باللغة المحلية وتنتشر في كل منها الكثير من الرسوم اليدوية.. وعندما قررا تصويرها اكتشفا وجود عدد لا نهائي منها.. وهو ما أثار دهشتهما لكنهما لاحقاً عرفا أن عدد هيئات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الموجودة في أفغانستان هي 120 هيئة. وكان هذا العدد الكبير جداً للهيئات الدولية للإغاثة يدعو للتساؤل عن جدوى ما يفعلونه هناك. صحيح أن الأحوال البائسة التي مرت بها أفغانستان خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت أحداث سبتمبر في عهد طالبان استدعت تحركاً دولياً للمساعدات. ولكن الواقع أن ما كان يتم بناؤه يتم تدميره في وقت لاحق حتى تصبح أرضاً مسطحة قاحلة ثم تعود نفس جهات الإعمار والبناء لتبني المباني وفقاً لهوى جهات المعونة. وبعد ذلك تحرك المؤلفان باتجاه مبنى هيئة الأممالمتحدة في كابول فقد كانا يرغبان في الانتقال إلى مرات أو قندهار. وكانت هناك منظمة مسئولة عن أعمال الانتقال وهي (UNAAS)، وبعد عدة ساعات قضياها في انتظار شخص لم يقدر له أن يصل قررا الذهاب إلى مكتب الأممالمتحدة للطيران، حيث علما أن المطار قد تم إغلاقه لأسباب أمنية. ولم تكن هناك أية معلومات أو تفاصيل. لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أنه لا توجد رحلات طيران من أو إلى كابول. وفي أثناء تناول الإفطار كانا قد سمعا عن تفجير بالي، لكنهما لم يستطيعا التأكد مما إذا كان هناك ما يربط بين الحدثين. وهكذا قرر الفنان لانغلاندز وبيلي الذهاب إلى السفارة البريطانية لإعلامها بوجودهما في كابول كرعايا بريطانيين.. استقلا سيارة أجرة وراحا يبحثون عن مبنى السفارة بلا جدوى. حتى أنهما شعرا بالضياع في منطقة الأحياء الغربية للمدينة حيث كانا يبحثان عن مبنى السفارة. فقد كانت معالم المدينة تتغير من يوم لآخر، فعلى مدى 20 عاماً كانت كثير من المباني وأحياناً أحياء كاملة ،تتلاشى، خاصة خلال الليل، بسبب التفجيرات، وهو ما كان يسبب صعوبة في تحديد عناوين المباني. خاصة وأن أغلب الشوارع بلا أسماء. ومع الغروب ازدحمت الشوارع، فقد كان الجميع في طريق العودة الى منازلهم قبل حلول الظلام، وهكذا عادا هما أيضاً إلى الفندق بعد أن أخفقت مساعيهما في الوصول إلى مبنى السفارة البريطانية. في اليوم التالي قررا زيارة مبنى (TSAF) قوات الأمن الدولية في أفغانستان، وهي قسم تابع لحلف الناتو وتختص بمهام الأمن في كابول. وباستثناء قندهار التي قامت القوات الأمريكية فيها بمهام عسكرية لضرب وملاحقة أهداف في تنظيم القاعدة فإن باقي أرجاء أفغانستان كانت تحت سيطرة جنرالات الانقلاب العسكري. ولهذا كانت الغالبية العظمى من الجماهير تلقب الرئيس حامد كرزاي بوصفه «عمدة كابول» ..وكانوا في أغلبهم، مع يأسهم من حلول السلام، يفضلون دولة مستقرة متحدة لها جيش وطني مكون من جميع الفصائل والقبائل والأعراف. ولم يكن أحد يعتقد أن كرازي يمكنه أن يستمر في الحكم لدقيقة واحدة بعد خروج الأمريكيين و«إيساف». كان معسكر «إيساف» يدار بواسطة الرائد «جوردون ماكنزي».. واقترح أن يصطحبهما إلى معسكر سوتير، الذي يعد بمثابة القاعدة البريطانية. كانت القاعدة قد أسميت على لقب آخر جندي من جنود المشاه الذين خرجوا من كابول عام ,1842. واتخذت القاعدة لها مقراً في جزء من أحد مصانع السماد التي أقامها الروس في السبعينات. وفي الوقت الراهن تعد أكثر الأماكن التي تتضمن أعمال تشييد وبناء في كابول.. وعلى عكس الشائع ؛ فإن الخيام المخصصة للجنود لا توجد في العراء، وإنما تم نصبها أسفل السقوف الأسمنتية داخل مباني القاعدة. ولم تتضمن ملاحظات المؤلفان أية تفاصيل خاصة بالحوارات مع الجنود أو مضيفهما، وإنما اقتصرت على وصف المكان وإعداد أكواب الشاي الأخضر.. وبعد انصرافهما من «إيساف» قررا الانتقال إلى فندق «الانتركونتيننتال» لأنه كان المكان الوحيد في كابول الذي يضم صالة «انترنت كافيه». يستقر الفندق أعلى تل في غرب المدينة وهو ما يتيح فرصة مشاهدة المدينة كلها من أي اتجاه. وعبر الأفق الممتلئ بالغبار كان بالإمكان مشاهدة «حصن بالاهيار» الذي يعود إلى عام 1870، كما يمكن مشاهدة مجموعة المباني التي بناها الاتحاد السوفيتي في شكل المباني التقليدية وفقاً للنموذج الروسي. يقول المؤلفان إن فندق الانتركونت قد تم تشييده على يد تايلور وودرو أواخر الستينات. ويصفانه بأنه مبنى عتيق مترب حيث تكون التوقعات بالحداثة العالمية في المستقبل ليست مضمونة تماماً. وهو ما تكشفه البلاطات الموجودة في السقف بشكل مهلهل. بينما لاحظا جداراً يضم جدارية ضخمة تحمل واحدة من نماذج التماثيل البوذية تشبه ما دمرته طالبان في باميان. وهي محاولة منها للتأكيد على الواقع البائس الذي تعيشه أفغانستان؛ فحتى أفخر فنادقها لا تزيد حالته عن حالة الفنادق البائسة في بلاد أخرى، ودليل على الفقر المرعب الذي يحيط بكل شيء كما يبدو لهما في مدينة كابول. وحتى مبنى السفارة البريطانية الذي عثرا عليه أخيراً، كان جزءاً من هذه الحالة العامة. وكان أول ما علق عليه المسئول بالإنابة في سفارة بريطانيا هو أن السفارة لا تفضل وجود رعاياها في أفغانستان، فأوضح لانغلاندز وبيل طبيعة عملهما والمهمة التي حضرا من أجلها كما أتاحا له فرصة الاطلاع على أحد الكتب الذي يضم مجموعة من أعمالهما. لكنه سمح لهما بالتجول في أرجاء السفارة بصحبته حيث لاحظا صورتين شخصيتين كبيرتين بنفس الطول لكل من الملك ادوارد السابع والملكة الكسندرا، ثم شاهدا مجموعة من الصور بالأبيض والأسود لمنزل قديم من طراز «النيوكلاسيك» يتوسط حديقة أنيقة لها طابع فخم. وعرفا من مرافقهما أن ذلك هو المبنى القديم للسفارة. كان قد قدم كهدية إلى الحكومة الباكستانيةالجديدة بعد الاستقلال عام 1947 ولم يتم قبوله إلا عام 1975. ثم اصطحبهما مرة أخرى إلى مكان عبروا للوصول إليه بعض الطرق داخل مجمع السفارة حتى شاهدا نفس المبنى الذي شاهداه في الصورة لكنه بدا بلون رمادي وبلا نوافذ أو أبواب. ومن الداخل كانت الجدران والأسقف قد تساقطت منها طبقة الجبس والألابستر التي تغطيها.. كان المكان أشبه بالأطلال. فقد قام جماعة من المنشقين على طالبان بتخريب المكان بوصفه سفارة باكستان المؤيدة لنظام طالبان. هذا هو الحاضر الذي تعيشه أفغانستان، وهو الحاضر الذي كتبت عنه الكثير من الكتب خلال السنوات القليلة الأخيرة ورصدته وحللته، كما رصدته عدسات المصورين.. وبينهم لانغلاندز وبيل، ولكنها الصور التي ستعيش لتؤكد للأجيال اللاحقة كيف ارتبط الإرهاب.. وتنظيم القاعدة وأسامة بن لادن بهذا المكان الذي يبدو نموذجاً لحضارة أقرب للبدائية - تنضح بها الوجوه والأماكن وسبل الحياة. كأنما الإرهاب لا يمكن أن يترعرع ويستقر وينمو إلا في مثل هذه البيئات التي تمكنه من النمو، كما حدث مع تنظيم القاعدة.. ولعلها إشارة أيضاً إلى أن الإرهاب بشكل عام - يرتبط بظروف القهر والأحوال الاقتصادية السيئة والاستبداد والكبت.. هذه هي مفردات البيئة الصالحة له. وفي مجتمع كهذا يصبح تخيل المحاكم صعباً.. لأن القضاء والمؤسسات المرتبطة به هي في الأساس جزء من المجتمعات الحديثة التي تقوم على احترام القضاء ووجود دساتير. ولهذا قرر مؤلفا الكتاب زيارة محكمة كابول العليا التابعة للحكومة الانتقالية في أفغانستان، وكان الهدف من الزيارة محاولة الحصول على تصريح للقيام بزيارة المحكمة في أثناء إحدى المحاكمات لقضية من القضايا. ففي أثناء حكم طالبان كانت المسائل القضائية أياً كان موضوعها أي سواء كان دينياً أو مدنياً أو عسكرياً فإنه يخضع لسرية وتحفظ شديدين.. ولكن المحكمة وافقت على التصريح لهما بحضور محاكمة في اليوم التالي. وقد تسبب ذلك في شعورهما بالسعادة لأن الجزء الأكبر من مشروعها المصور يتعلق بشكل أساسي بانعكاسات الحرب على أفغانستان.. سواء في الهيئات والمؤسسات ذات الطابع العسكري وبينها القضايا المتداولة في المحاكم ذات الصلة، بالإضافة إلى انعكاس ذلك على الحياة اليومية للمواطنين الأفغان. وهو ما سيصطدمان به لاحقاً. فبعد خروجهما من المحكمة قررا التوجه إلى المنطقة التجارية المعروفة بسوق الذهب لتغيير بعض النقود للعملة المحلية، وأثناء تجوالهما في السوق اصطدما بفتاة في عمر المراهقة توجهت إليهما بعناء لتطلب منهما مالاً، وأسفل الوشاح الخفيف الذي أسدلته على وجهها لاحظا أن الفتاة لها نصف وجه فقط! كانت إحدى عينيها مفقودة ومكانها فراغ أشبه بفجوة من اللحم الميت بينما طمست ملامح الجزء من الوجه الذي تقع هذه العين به. وقد بدا أثر ندب جروح متناثرة على عظام الفك المكسور. أشفق عليها الفنانان فأعطياها بعض النقود، لكنها ظلت تلح عليهما في المزيد، فبدآ يسيران مبتعدان عنها فلم يزدها ذلك إلا إصراراً على ملاحقتهما في أرجاء السوق وبعناد.. ودون أن تتوقف عن رجائها لهما أن يمنحاها مبلغاً إضافياً للدرجة التي جعلتهما يقرران مغادرة السوق على وجه السرعة.كان وجه الفتاة نموذجاً رهيباً على الأوضاع السيئة بسبب الفقر، وبسبب الحرب، من جهة، كما يشير إلى سوء أوضاع المرأة الأفغانية بشكل يفوق الوصف من جهة أخرى. فالمرأة الأفغانية تعاني الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تتعلق بالأعراف والتقاليد، لكن حكم طالبان كان قد قضى على أي فرصة لتنمية هذه الأوضاع، وإعادة الاعتبار لكرامة المرأة ووضعها في المجتمع، على الأقل، في المستقبل القريب. (وكالة الأهرام للصحافة)