تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن تاريخ القهوة العربية وأنها هي الأصل لجميع أنواع القهوة في العالم وبناء على ذلك اعترضنا على اعتبار قهوتنا العربية الأصيلة علامة من علامات التخلف الحضاري بينما تكون أنواع القهوة المعاد تصديرها إلينا رموزاً حضارية!! فما زالت القهوة العربية المرّة وستظل هي المشروب الرسمي/الشعبي الأول الذي يقدم إلى كل الشخصيات الرسمية/الشعبية التي تزور السعودية كرمز وطني عريق لكرم الضيافة وحفاوة الاستقبال وطعم اللقاء الأحلى! فهل تظنون أنه يلزمنا أن نقدم لهؤلاء الضيوف الكابتشينو أو الاسبرسو أو الموكا ابتداء لنثبت لهم أننا وصلنا إلى أعلى درجات الرقي والتقدم الحضاري؟! أو أن نستقبلهم بالبدلات الإفرنجية حتى لا يظنوا حين نستقبلهم بالثوب والشماغ أننا ما زلنا بدواً!! ويعتبر فنجان القهوة العربية المرّة أغلى فنجان قهوة في العالم وعلى مدى التاريخ، فرغم أنه يقدم مجاناً لكن قيمته المعنوية عالية جداً لدرجة أن الإنسان قد يدفع حياته ثمناً لفنجان واحد من هذه القهوة الساحرة!! وهذا أمر تؤكده المصادر التاريخية إلى مطلع القرن الرابع عشر الهجري بيقين..فلفنجان القهوة فلسفة خاصة وسيرة خالدة في نسيج السوسيولوجيا المحلية الصارمة في نظرتها للقيم الأخلاقية الحاكمة بأحقية الفنجان كما قيل: يا مكيّف الفنجال خصّص هل الجاه راع الجمايل قبل ... قموحي ولصنع القهوة في الماضي طقوس عجيبة يجري بثها على الهواء مباشرة عبر قنوات أشهرها قناة (المنارة) وقناة (الوجار) في فضاء المجالس المفتوحة التي يرتادها من تحلى القهوة بحضوره كما قال ابن حثلين: ياما حلا الفنجال مع سيحة البال في مجلس ما فيه نفسٍ ثقيلة هذا ولد عمٍّ وهذا ولد خال وهذا رفيقٍ ما لقينا مثيله تلك الطقوس المتجذرة حيث لا عزاء للكوفي شوب تحفّز حواس عشّاقها المنتظرين لذة مذاقها، ونشوة ترياقها، على موقد نار الشوق لها، والضرَم عليها، متماهين مع نار دغيّم الظلماوي العامرة بكرمه إذ يقول: يا كليب شب النار يا كليب شبه عليك شبه والحطب لك يجابي وعلي أنا يا كليب هيله وحبّه وعليك تقليط الدلال العذابي طقوس تبدأ بإشعال الغرام الذي يسرق العين بكيل حبها ثم الأنف بتحميصه ثم الأذن بدقّه، ومرة أخرى يتكرر المشهد المثير ب(تلقيم) و(طبخ) و(زلّ) و(تبهير) لتفوح بالعبير، فما أن تمتد يسار الساقي إلى الدلّة حاملاً فناجينها بيمينه إلا والقلوب تهلل طرباً لرنين (سلايل) الصين وكأن سميرة توفيق تغني: بالله تصبوها القهوة زيدوها هيل واسقوها للنشاما عاظهور الخيل فتسكب على أنغام صوت ذات الخال وصورتها فنجاناً فنجاناً، وكأن مسارات انسكابها أوتار شدّت بين الفناجين والدلّة؛ ليعزف عليها الساقي سيمفونية الكيف الأسطوري! في مشهد يتعانق خلاله الحمار والبياض عناق الأحباب في لحظة الوجد، تلك اللحظة التي لم تمر على ابن ربيعان مرور الكرام، فقيدتها عدسته بقوله: فنجالها يشدي خضاب الخونداه الجادل اللي عند أهلها طموحي فما بالك لو كان الحال كما صوّره ابن راجس : فنجال من غالي يمدّه لغالي وتهديه قبل إيديه سودٍ مظاليل وما أن تلامس فناجينها الأيدي ثم تستيقن طعمها الأفواه إلا وقد خالجت خلايا الرؤوس نفحاتها، وشرحت حنايا الصدور رشفاتها، متمثلة قول أعشى قيس الخالي من خائه: ألا فاسقني مرّاً وقل لي: هي المرُّ ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ وبعد فللقهوة حكاية لا تنتهي وعاشق لا ينتهي...ولا يتصور أحد بعد هذا الكلام أنني من المدمنين على المرّ الرافضين للسكرّ، ولكن تظل قهوتنا عربية ولو شربنا الكابتشينو! والشكر لأبي سفيان في استجلاب هذه التداعيات التي لازال لها بقايا.