عندما نسمع كلمة [ فساد ] لا تكون الكلمة غريبة عنا ، ولا يكون مصطلح الفساد يحتاج إلى تفسير بالنسبة لنا ، فهو معلوم منذ وجدت هذه الكلمة ، والعقل يميز بينه وبين الصلاح والنزاهة ، ولا يمكن أن يلتبس على العقول والفهم شيء من ذلك . التفاحة التي أصابها خدش علاها تراب وطين أوليست ناضجة تختلف عن التفاحة التي أصابها العفن ورائحتها نتنة فالأولى غير فاسدة بينما الأخرى فاسدة. كما أننا نعرف جيدا الفعل أصلح ونقيضه أفسد ، وكذلك نعرف ما يفسد الأشياء وما يصلحها ، ونصف بعض الحيوانات والقوارض والحشرات بأنها ذات نفع أن أنها مفسدة . فالنمل الأسود والذر الأحمر والفراشات والبعوض قد تكون مؤذية ولكنها ليست فاسدة ولا مفسدة ، بينما النمل الأبيض الذي يحول الخشب إلى تراب يعتبر في عرفنا مفسداً . وبالتالي عندما نطبق هذا على أعمالنا ومجريات حياتنا وما فيها من إدارة مصالح وتسيير للأمور فإنها لا تختلط علينا المفاهيم والمصطلحات ، بل نعرف تماما أن هذا الشيء إما تقصير ناتج عن قلة خبرة أو قلة معلومة أو سوء إدارة أو خطأ أو انعدام وعي ، وفي المقابل نعرف أن هذا الشيء المختلف عن ذلك كله فساد. ولا يعني أن كل شيء يندرج ضمن مصطلح الفساد ، حتى ولو كان فيه مضرة ، فالموظف الجديد قليل الخبرة قد يضر المؤسسة أو الدائرة ويسبب لها خسائر مادية ومعنوية ، ولكنه لا ينطبق عليه مصطلح ( مفسد ) ، كذلك الموظف الذي تأخر عن عمله أو قصر في الحضور وغاب لسبب أو بدون سبب لا يعتبر في عرفنا مفسدا ولا فاسدا ، ولكنه مقصر وقليل خبرة وإدارته شجعته على الكسل ومتهاون وليس لديه إحساس بالمسؤولية ، لكنه ليس مفسد . استئجار المنشأة لكي تكون مقراً لدائرة أو مؤسسة بسعر مرتفع أو منخفض وكذا ضعف المبنى أو عدم تلبيته للاحتياج ، يمكن أن يكون فيه قلة خبرة وخطأ وتقصير ويمكن أن يكون فيه فساد ، ولا تختلط هذه بتلك، فاستئجاره بأعلى مما يستحق قد يكون من قلة دراية فنحن في تصرفاتنا بيعا وشراء نغلب وننخدع أحياناً، وكذا لو لم يفِ المبنى المستأجر أو المملوك بالغرض تماماً قد يكون ناتج من عدم دراية بالمتطلبات المستقبلية، وكل ذلك لا يعد فسادا، ولكن الفساد أن يتم استئجاره أو شراؤه لمحاباة ونفع صاحب المنشأة لقرابته بموظف في الدائرة نفسها ويراد نفعه أو التقرب إليه أو حسب وده أو بسبب المحسوبية. كذلك إنجاز العمل بتقصير أو تأخير الإنجاز قد لا يكون فسادا، ولكنه قد ينتج من سوء تنظيم العمل وعدم الخبرة فيه ، وهذا علاجه يتم برفع كفاءة الموظف وتنشيط الإدارة ومحاسبتها على التقصير ومتابعتها، أما قيام الموظف بنفع قريب له وتخطيه للأنظمة من أجل هذا فيعد فسادا لا تنفع فيه عملية التدريب. والطبيب عندما يرتكب خطأ مع مريضه فيصف دواء عن طريق الخطأ أو يظنه علاج فعال فتين غير ذلك أو لم يحضر إلى المستشفى فلا يعتبر فاسدا والحالة تلك، ولكنه يعتبر متهاوناً، غير جدير بمسؤوليته الكبيرة المهمة، ويعتبر مقصر ويحاسب على ذلك ولكن الفساد أن يصف له دواء من أجل نفع شركة الأدوية التي اتفق معها على نشر علاجها وهو أقل كفاءة أو لأنه يستلم نسبة من الأرباح، هذا هو الفساد . المعلم الذي لا يعرف كيفية إيصال المعلومة ولا يشرح كامل الدرس وضعيف في مادته أو لا يعرف كيفية ضبط الفصل أو كتابته غير واضحة وشرحه غير مفهوم كل ذلك لا يعتبر فسادا ، ولا يعد هذا المعلم فاسدا ً بل يعد اختياره من قبل الإدارة غير موفق فلم يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب له . وإنما المعلم الفاسد هو الذي يعطي درجات لطالب أكثر مما يستحق لأنه يدرسه خصوصي أو لأنه قريبه أو لأنه يعرفه أو لأي غرض يرى فيه مصلحة شخصية. حتى لو كان هذا المعلم من أكفأ المعلمين إلا أن هذا العمل والسلوك يدرجه ضمن وصف معلم فاسد. عندما نأتي لدائرة أو مؤسسة ونجد كثير من موظفيها مكاتبهم خالية ، والعمل معطل أو شبه معطل و يجد المراجع معاناة في انتظار الموظف وإنهاء المعاملة ، فلا نعتبر هذه الدائرة وموظفيها فاسدين ، ولكنهم غير عارفين بالتنظيم الإداري أو غير مبالين به أو هناك ضعف في الإدارة، أو سوء إدارة ، أو خلل من أي نوع كان ، ولكنهم لا ينطبق عليهم فيما نعرف مسمى الفساد. أما الفساد فهو أن معاملة المراجع لا تنجز إلا بمقابل قل أو كثر ، أو لا تنجز إلا بواسطة أو معرفة قرابة أو تحقيق مكسب ما. هذا هو الفساد. عندما يكون لديك عامل ينوب عنك في المحل التجاري ، فيبيع بأعلى أو أقل من التسعيرة أو يهمل في متابعة السلع من حيث تاريخ الصلاحية أو يتم التخزين للمواد في مكان غير مناسب فهذه قلة خبرة أو تهاون ، لكنها ليست فساد ، ولا يعتبر في عرفنا فاسد، إنما الفاسد هو الذي يشتري بضاعة ويبيعها لحسابه دون علم صاحب المحل، أو يعطي من المحل لمعارفه دون دفع قيمة أو يسرق من الإيراد. الكاتب أو الصحفي الذي يطرح موضوعات ضعيفة أو يطرح رأيا لكنه غير مهم أو يطرح أفكارا هزيلة أو أسلوبه ولغته مرتبكة ليس صحفيا أو كاتباً فاسدا، ولكنه قليل الخبرة أو ضعيف التأهيل أو تنقصه الأدوات، وإنما الصحفي الفاسد أو الكاتب الفاسد هو الذي يخدم بقلمه جهة معادية لوطنه أو أمته أو يجعل للمحسوبية نصيب في طرحه ويخدم بقلمه مصلحته ونفسه على حساب مبادئه ومصلحة مجتمعه ووطنه وأمته هذا هو الفاسد. المرشح لأي عمل لا يكون فاسدا قبل عمله ولا نعلم ما سيكون عليه من أسلوب، ولكن الناخب أو الذي اختاره قد يكون فاسدا ابتداء إذا هو منح صوته لشخص دون معرفة تامة به ودون كفاءة يتمتع بها وإنما بسبب المحسوبية أو المناطقية أو القبلية أو الزمالة أو فزعة يمنحه صوتا لاختياره وهو يعرف أن هناك من هو أكفأ منه وأقدر، أو لا يعرف عنه شيئا إلا كونه من قرابته ويريد تقربا منه بهذا الصوت، فهذا هو الفساد. ولكن ليس فاسدا من منح صوته لمن يظن أنه كفؤ وتبين فيما بعد أنه غير ذلك لأنه بنى على خبرة تغيرت فهو معذور وقد أخطأ في عدم تجديد المعلومات عن الشخص المرشح. إذا الفساد يختلف عن الضعف في الأداء وعن التقصير وعن مصطلحات كثيرة وإن تقاربت نتائجها . فالراشي والمرتشي و بينهما الرائش كلهم فاسدون، والواسطة بغير حق ولتحقيق مصلحة من يمنحها فساد، ونهب المال العام و السرقة منه فساد ، وتقديم المحسوبية والمصلحة الشخصية على حساب مصالح أمته وعمله فساد ، واستخدام المنصب لغرض شخصي وكذا التزوير فساد لا شك فيه والبوح بأسرار العمل بما يضر المصلحة لتحقيق فائدة شخصية أو تقرباً لأحد أيضا فساد . وهكذا فيما يشابه هذه الأشياء و يتفق معها، أما التقصير وقلة الخبرة وضعف التأهيل وما شبه ذلك فإنه يعالج برفع الكفاءة وإقامة الدورات وتنشيط العلم لدى أفراد المجتمع وتعميم التعليمات وتوضيحها وفهمها وشرح طبيعة العمل وتوصيفه ومن ثم متابعته وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب. ومشكلة الفساد أنه لا يخضع لأي من ذلك كله لأن من يتصف بالفساد قد تكون لديه كل الأدوات والمعلومات والخبرات والمعرفة لكنه يتخطاها كلها إلى الفساد لأنه يرغب في تحقيق فائدة تخصه وليذهب العالم إلى الجحيم ولا يفيد فيه سوى العقاب ، وتطهير مكانه منه. وقانا الله وإياكم من الفساد والمفسدين ودعواتنا لبلدنا ومجتمعنا بصدق وإخلاص بأن يجتث منه الفساد وأهله وأن يزيل المفسدين إنه هو السميع العليم.