سيحملون اليوم حقائبهم وجزءا من أحلامنا بهم وسيمضون ليستجدوا السبورة أن تمنحهم جوابا لغموض العالم حولهم، ينزعون عنهم غطاء الإجازة الصيفية الخامل اللزج ويستمطرون الكتب فوق حقولهم العطشى. سيذهبون إلى بلاد القوالب والمكعبات المصمتة على يقينها، سيلجون متذمرين أفنية مدرسية لن تمنحهم الدهشة ولا لياقة القفز فوق الحواجز والتحديات اليومية، وسيتأبطون كتبا كئيبة منطفئة لا تثير بداخلهم الفضول والمغامرة التي هي الشرط الأول للمعرفة، سيذهبون إلى الفصول التي تمتلك مقصات عملاقة تقص الأجنحة، والاختلافات، والتميز، والتعدد، وتقولبهم ضمن شروط بلاد القوالب والمكعبات المغلقة على جواب وحيد ونهائي. سينفضون النعاس عن رموشهم والوهن عن أصابعهم سيذهبون، يأخذون قطعة من مهجتي معهم، وسيتركونني لضجيج الأسئلة هل ما ندفعهم له هو أفضل مكان سيعدهم للمستقبل؟ هل داخل تلك الفصول الاسمنتية فك لألغاز المغارة ومفاتيح لمغامرة الحياة الكبرى؟ هل ما يقدم هناك سيزودهم بخطة تدربهم على الانتقال من النقطة ألف إلى النقطة باء.. في درب الحياة؟ أم أن المؤسسات التعليمية ليست سوى مصنع هائل لا ينتج سوى نسخا متطابقة مذعنة منساقة لقوانين القطيع راضخة لفكر البنى الفوقية المهيمنة على وسائل الانتاج بحيث تخرج أدمغة جوفاء قابلة للترويض والعسف؟ ما برح التعليم عندنا بلا سياسة أو فلسفة يقوم عليها، هو فقط شكل مطور للكتاتيب بالكاد ينال الخريج منه فك حروف الأبجدية وحفظ بعض جداول الضرب. شهدت الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1947 ثورة اقتصادية وصناعية كبرى فكانت تنتج بمفردها 57 في المئة من فولاذ العالم، و43 في المئة من كهربائه، و62 في المئة من نفطه، و80 في المئة من سياراته. هذه الثورة الصناعية الهائلة كانت تتطلب أيادي عاملة مدربة، لذا قامت نظريات التعليم لديهم على تعليم أعداد كبيرة متطابقة متشابهة منضبطة تصلح لأن تعمل في مصنع ينتج المنتج الشمولي -'Mass production، هذا النوع من التعليم الذي يخدم فلسفة المصنع الرأسمالي وقوانين الشركات الكبرى. ولكن بهذه الصورة انخفضت مخرجات التعليم في الولاياتالمتحدة وجودتها النوعية بصورة كبيرة إلى أن خرج التقرير الأمريكي المشهور في مطلع الثمانينيات: (أمة في خطر) وهو تقرير عن أوضاع التعليم الأمريكي ومنتجاته البشرية المتواضعة الامكانات المحدودة القدرة على التعامل مع الأوضاع التي خلقتها تكنولوجيات الثورة المعلوماتية ومكتشفاتها المعرفية في السبعينيات والثمانينيات، مما جعل الولاياتالمتحدة تراجع فلسفتها وأهدافها التعليمية بصورة جذرية بهدف الوصول إلى ثورة كبرى في أنظمتها التعليمية توازي الثورة التقنية العالمية. وعندما نعرف أنه لا يوجد لدينا محليا فلسفة لنظامنا التعليمي يحق لنا أن نتساءل: (هل نحن أمة في خطر؟) هل ما يقدم في المدارس الآن يؤهل الطلاب لاكتساب المهارات والمعارف الجديدة المتوائمة مع قفزة الثورات: المعلوماتية والعلمية/ مع خبرات واقتصاديات مجتمع المعرفة؟ المؤسسات التعليمية لدينا هل تساهم بشكل اساسي في زيادة المعرفة البشرية حول الحياة والكون والانسان؟ هل وسائل التعليم تقوم على النقاش وإثارة الأسئلة واستحثاث الفضول وتدريب الأدوات النقدية وتساعد الطالب على فهم تاريخه الانساني وحضارته ومجتمعه؟ أم أن التعليم لدينا ما برح في ألف.. باء الكتاتيب؟ أسئلة كثيرة تحاصرني وأنا أدفع بأبنائي لفوهة عام جديد. أتمنى لطلابنا وطالباتنا عاما يحتضن ركض أسئلتهم وتحليق أجنحتهم، فلا يحاصرهم بالمقصات والخوذات الحجرية.