كان ذلك أيام كنا نحلم، تجتاحنا الأوجاع ونحلم بالغد، نتلقى الخيبات ونحلم بالتغيير، تُنهكنا الهزائم ونحلم بزمن الانتصارات، تُدمينا الانكسارات ونحلم بالمستقبل، تُرهقنا وتذبحنا أنماط التخلف التي نعيشها ونحلم بفضاءات التنوير والحداثة في المفاهيم والعمل والتفكير، كنا نحلم غير محبطين من واقعنا العروبي، وغير يائسين من مستقبلات الإنسان، وكنا نبرر ونسوّغ رفضنا لليأس بأن الأمة بإرثها الحضاري والفكري وتاريخها المضيء عصية على الانكسارات والهزائم، ربما تغفو، ربما تتراجع، ربما تفقد الشهية على التأثير وتتخلف عن القيادة، لكنها لا تموت، لا تثخنها الجراح وتسقط في ميادين الإنتاج والعطاء، وتتخلف عن أدوارها المصيرية في إنتاج الوعي. كنا نحلم كالأطفال، تغرينا الشعارات "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" و"تحقيق العدالة والمساواة والحريات للإنسان من المحيط إلى الخليج"، ولم نكن ندرك أن مفاهيم هذه المصطلحات عند زعامات العسكر تختلف لتتحول إلى "التخلف والقمع والاضطهاد والأمية ومصادرة حقوق الناس والإقصاء" إلى غير ذلك من مضامين مفاهيم الأنظمة التوليتارية، وكان عدونا الوحيد - سيبقى عدونا الوحيد - إسرائيل، حتى رددنا بعد حرب الأيام الستة، إن لم تكن حرب الساعات الست بصوت مذبوح وحزين وبائس ذات عيد من أعيادنا التعيسة مع الجنوبي الرائع أمل دنقل. "عيد بأية حال عدت ياعيد (بما مضى، أم لأرضي فيك تهويد)" نامت نواطير مصر (عن عساكرها) (فحاربت بدلاً منها الأناشيد)" من ساعتها تبخرت الأحلام، لم نعد نحلم، ولا نعرف كيف نحلم، وليس بمقدورنا أن نمارس ترف الحلم، وأدركنا واقعنا المخيف في شرق تتلبسه الخرافة، وتسكنه الأسطورة، وينقاد كالقطيع خلف المجانين والقتلة والمجرمين، ويقف في الساحات أمام نصب الزعيم/ الصنم يردد ببلاهة وقهر "بالروح، بالدم نفديك" من حناجر أعيتها توسلات الحصول على الرغيف، وأجسام أنهكتها الأمراض والأوبئة مع فقدان الطبابة والدواء، وعيون شاخصة بالمذلة والانكسار والخوف من السجون والمعتقلات وأدوات التعذيب، والصنم الذي يفدونه بالروح والدم لو أدخل مصحاً عقلياً وأخضع للفحص الطبي السيكولوجي لكان الحجر عليه في المصحة أمراً لا يقبل التأخير أو النقاش. ونعيش أعيادنا من جديد. تتوالى الأيام والأزمنة ونكتشف أن العدو الحقيقي للشعوب العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والإرث الحضاري هو زعامات العسكر التي جاءت بجهلها وأمراضها النفسية وعقدها الى مراكز القرار، ومواقع القيادة لتمعن في تخريب العقل العربي، والعبث بالإمكانات والثروات الوطنية والقدرات البشرية والإنتاجية، وتستعبد الناس لتحيلهم إلى كائنات هشة مرعوبة وجلة رخوة. يأتي العيد، وهو عيد الأطفال الأبرياء الصادقين ليكتشف العالم العربي أن من وعده بالمن والسلوى، والحرية والكرامة، ليس إلا جلاداً مجنوناً، وطاغية دموياً عاشقاً للدم، ينتشي لرؤية جثث الأطفال مسحوقة منقوشة الأجسام بثقوب الرصاص، ويتلذذ بمشاهدة النساء يحملن موتاهن من الصغار ناحبات منكسرات موجوعات، ويرقص في حفلة الموت المجاني على دوي الانفجارات بفعل طائرات القتل الروسية الصنع. هذا عيد الأطفال في سوريا، وفي بعض الوطن العربي، إنه عيد عهر الطغاة.