والمؤمل منا ومن جميع شرائح مجتمعنا التفاعل مع مبادرات الخير والعطاء والتبرع لدعم هذا المشروع الخيري بأي مبلغ كان ولو كان زهيداً، فالبذل هنا، لا للبحث عن شهرة أو أضواء، ولا لمردود مادي أو جاه، وإنما ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى وكسب الأجر والمثوبة في ليلة مفعمة بروحانية هذا الشهر الفضيل، وفي حضورٍ لمفهوم العلاقات الاجتماعية والتواصل الإنساني بوجهيهما الحضاري، فانه من الطبيعي أن تدفعك حالة التفاني تلك للبوح وبث ما يختلج في النفس من مشاعر تدفقت في لحظات إنسانية لاسيما ونحن في شهر تغمر فيه الرحمة قلوب المؤمنين، وتجود فيه أيادي المحسنين بالعطاء. عشنا أمسية رمضانية حالمة فاضت بمعاني العطاء والبذل، وأمسكت بتلابيب الإحسان والتكافل، فكان عنوانها باذخا في الحنو ومرهفا بالإحساس ولصيقا بمعاناة الآخرين. كان المكان مليئاً بالقصص والمآثر وصور الانجاز، ورائحة عبق التاريخ تسرد مواقف إنسان هذا الوطن المتراكمة والزاخرة بالذكريات والمواقف اللافتة، ليتناقلها جيل عن جيل، فتخلد في الأذهان، وترسخ بصمات المؤسسين والمبادرين الكبار في صورة إنسانية بالغة التأثير. هذه الاجواء الرحمانية عشناها قبل أيام في قصر الأمير خالد الفيصل حيث دشن مشروع "خير مكة"، الذي يُعد من أهم مشاريع جمعية الأطفال المعوقين بحضور الأمير سلطان بن سلمان رئيس مجلس الإدارة، ومعالي وزير الشؤون الاجتماعية وبعض أعضاء مجلس إدارة الجمعية، وثلة من أعيان المنطقة والمهتمين بعمل الخير والداعمين للنشاط الخيري. كان الحديث عن أوجه الخير وثواب المساهمين ومساعدة المحتاجين ودعم المعوقين، فما لبث أن أصبح بمثابة تجسيد لمعاني التآلف والإخاء والتفاني والبذل والعطاء وألحان السكينة. في تلك الليلة، ترسخت قناعات الحاضرين في أن الطفل المعاق، مثله مثل أي طفل آخر، لابد وأن ينعم في مجتمعه بكل الحقوق من احتياجات نفسية وتربوية وتعليمية ومهنية مرتبطة بتنشئته ومستقبله، ولذلك فمن معايير قياس تقدم الشعوب وتحضرها، ما يكمن في مدى اهتمامها بالمعاق، وتهيئتها لكافة السبل في أن يحيا ويتمتع بحياة كريمة تليق بإنسانيته. غير أن البعض يرى بأن الإعاقة ما هي إلا إعاقه اجتماعية في المقام الأول، ولذلك تجد أن الجمعية على دراية بأن معاناة بعض الأسر نفسية واجتماعية واقتصادية، لاسيما وان قلة مداخيلهم المالية تحديدا لا تمكنهم من تقديم خدمات لمعوقيهم من تأهيل وتنمية قدرات ودمج في مجتمعهم، ما يجعل معاناتهم مضاعفة لتأثرهم بها من جهة، وعجزهم وعدم قدرتهم على معالجتها من جهة أخرى، وهو ما جعلها تنطلق من منظومة الأخلاق والوعي والقيم، استشعارا بدورها الإنساني، بدليل سعيها الحثيث والجاد وراء تغيير الصورة النمطية والسلوك الاجتماعي تجاه أبنائنا المعوقين. وفي هذا السياق، يأتي مشروع مكة في إطار هذه الرؤية، ضمن إستراتيجية المشاريع الاستثمارية والأوقاف الخيرية للجمعية، لإيجاد مصادر دخل ثابتة، حيث يُعد الأكبر والأول في آلية التمويل، لتوفير روافد مالية لميزانيات تشغيل مراكزها في مختلف مناطق المملكة، لضمان استمراريتها في تقديم خدماتها المتخصصة والمجانية. على أن هذا الأمر يثير التساؤل مجدداً حول دور المجتمع وتعاونه من باب المسؤولية الاجتماعية، وكان محقا الأمير خالد الفيصل حينذاك في قوله "إن هذه المشاريع دليل على تحضر الفكر الإسلامي في الأوقاف والزكاة، وكما هو مذكور في الأدبيات الإسلامية لو توجهنا لها لما بقي في العالم الإسلامي فقير أو محتاج". الحقيقة أن القيم الدينية التي يتشبع بها المجتمع في تقديري تدفع باتجاه ضبط التفاعل الاجتماعي، وعادة ما توجه سلوكيات المجتمع بما يحقق تماسكه وتجنيبه الفوضى والمعاناة والانهيار. فالدين الحنيف يساهم في تصريف التوترات المختزنة في تركيبة المجتمع ويساعده في الخروج من الأزمات والكوارث، كون مبادئه وقيمه ومعانيه تلعب دوراً في اتساق رؤية الفرد والمجتمع لتكون بمثابة المنظومة لتشكله والآلية لتغييره ليصبح أكثر تماسكا وتفاعلا وتكاملا. ولذلك فمشروع (خير مكة) فضلا عن انه إنساني وخيري، فإن مردوده سيكون كبيرا، وسيمثل نقلة نوعية في توسع فروع الجمعية في أرجاء المملكة وبما يساهم في تطوير خدماتها المجانية للمعوقين. ناهيك عن ضخامة محتواه حيث يتألف من 18 عمارة سكنية، والمرحلة الأولى تم الانتهاء من مخططاتها لبناء ستة مبانٍ سكنية في حي النسيم بمكة وقدرت نفقاتها ب 38 مليون ريال. ولعل الجديد في الآلية التي ارتهنت إليها الجمعية حيث طرحت المشروع للاكتتاب العام للداعمين من فاعلي الخير، بحيث يمتلكون أسهماً مسجلة وموثقة في بادرة غير مسبوقة تساهم في تأصيل العمل الخيري وتعزيز دوره في المجتمع. غير أن شهادتي قد تكون مجروحة كوني عضوا في هذه الجمعية، إلا انه من باب الإنصاف، واستنادا لما يذكره الآخرون في أنها أصبحت علامة بارزة في العمل الخيري، بدليل أنها أشرعت أبواب فروعها في العديد من مناطق المملكة لاستقبال مئات المعوقين، ولديها الآن أكثر من 11 مركزاً، وقدمت عصارة خبراتها لهم من توعية وتأهيل وعلاج وتعليم وتدريب. لقد كانت رسالتها، ولا زالت، دفع قضية الإعاقة لتكون هاجسا وطنيا يستشعر المجتمع أضرارها، وتحويلها كمفهوم من انعزال وانطواء إلى قوة دافعة للتحدي والبناء وتحقيق الذات. ورغم أن تكلفة علاج كل طفل معاق تصل إلى حوالي 70 ألف ريال سنويا، إلا أن الجمعية تصر على تقديم برامج التأهيل ودمج المعوقين أكاديميا واجتماعيا في جسم المجتمع ومؤازرتهم ليتأقلموا مع الحياة المعاشة. صفوة القول، إن اغتنام الجميع لهذه الفرصة في شهر الرحمة والمغفرة واستشعار المسؤولية الاجتماعية تجاه أبنائنا المعوقين هو واجب وطني يفرضه علينا ديننا وقيمنا وتقاليدنا، منطلقين من نسيجنا المجتمعي وخيوط تواصلنا الاجتماعي وشعورنا الإنساني، وهو ما تراهن عليه الجمعية. وكما قال الأمير سلطان بن سلمان ان المشروع يحمل اسم خير مكة لكن خيره بحول الله سيعم جميع الأطفال المستفيدين من خدمات الجمعية في مختلف المناطق. والمؤمل منا ومن جميع شرائح مجتمعنا التفاعل مع مبادرات الخير والعطاء والتبرع لدعم هذا المشروع الخيري بأي مبلغ كان ولو كان زهيداً، فالبذل هنا، لا للبحث عن شهرة أو أضواء، ولا لمردود مادي أو جاه، وإنما ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى وكسب الأجر والمثوبة في عمل خيري إنساني لشريحة غالية على قلوبنا. قال تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)..