تُرى.. ما الذي يجعل الجموع والبحر والمساء تزحف، بحنين وحنان وسكون، في خريف كخريف مدينة عربية كبيروت مثلاً، من أجل الجلوس والإنصات إلى تراتيل خاصة، على هيئة غناء؟ صحيح أن الزمن العربي على مدى عقود طويلة كان مشحوناً ومشوباً بالقلق والغموض. ولكن بعد أكثر من عام ونصف العام على الربيع العربي الغارق بالدم والذي كان زاد تدفقاً في اليمن وليبيا ويتواصل تدفقه اليوم في سورية، وهذا كله زاد وحشة الليالي العربية، إنها لليالي العربية، التي صارت موحشة، وغادرها الدفء، ولم يبق فيها "إلا الصوتُ مُرتَعشاً إلا الحَمَائمُ، إلا الضَائعُ الزَهَرُ"، لها عهدها مع الناس، يعيشون به، فيسرقهم، ذلك العهد، من أعمارهم، بين رعشة ورعشة، تفرّ نفس العربي إلى فسحة أخرى، أو مناسبة لتجديد الكلام عن "الزمن الجميل"، المتسرب من حيوات الناس وأصابعهم، أو عن بقاياه في النفوس. ولا مكان هنا ل "سفيه.." الكلام، الذي يستخف بجدوى الحنين للضيَع والقرى المنسية، أو الغناء للقمر والطاحون، أو لمساءات بسيطة عبرت في حياة العُشاق. تُرى.. ما الذي يجعل الجموع والبحر والمساء تزحف، بحنين وحنان وسكون، في خريف كخريف مدينة عربية كبيروت مثلاً، من أجل الجلوس والإنصات إلى تراتيل خاصة، على هيئة غناء؟ بل كيف لبيروت، التي تمورُ بصمت، وكيف للشرق كله أن يجد متسعاً من الهدوء، وسط حرائقه المتوالية، للغناء أو الحنين الجماعي أو الفرح؟! كأنها صلاة الشرق، حين يظمأ، ليُعيدَ الأمل والمحبة إلى "دفاتر السماء"، بعد أن مُحيت منها أسماء المقهورين، بالظلم والعسف والاستبداد..! كأنها مواعيد وعهود تتجدد، بتلقائية الشرق الظامئ وحنينه. عهودٌ "كآخر يوم في الخريف بكى، وصاحباكَ عليه الريحُ والمَطَرُ". لا لشيء، إلا لأنه "هنا الترَاباتُ من طيب ومن طَرَب.."، وفيها يُجدّدون المواعيد "أواخرُ الصَيف، آنَ الكَرْمُ يُعتَصَرُ"، ويُعتقون "النغَمَات البيضَ"، ويرشُفُونها "يومَ الأمَاسي". فالأحباب قد يغيبون، ومن دون أن يكون لهم ذنبٌ في الغياب، فهُمُ "الجَنَاحُ الذي يَلهو به السَفَرُ". في الشرق الصاخب اليوم، وعلى نحو غير مسبوق، حول "بحيرة المتوسط"، تنخض النفوس والدماء والبصائر، كما لم يحدث من قبل. ويفقدُ كثيرون دروبهم وملامح الطُرق الموصلة إلى بر الخلاص. غير أن الحنين، حنين مرافئ شرق المتوسط العربي يُحمّل الناس، دوماً، "هَم الأحبَة إنْ غَابوا وإنْ حَضروا"، ليُبقيهم على أمل، لتأتي أيقونتهم، ذات خريف، وتُصلي على حافة بحرهم: "..إيه، في أمل"..! هي تلك الأرض، وتلك المرافئ، "من شذى وندى"، لم تسكت يوماً، وإن فعلت، ذات جراحات، فإنها تُفيقُ مسرعةً لتصرخ: "أجملُ التاريخ كان غدا". والآن يتوتر ساحلها المتوسطي الطويل، من "رفح" إلى "إسكندرون"، كما لم يفعل من قبل، فالنجمةُ القطبية تقفُ عَن دورتها، على مرافئه، غير آبهة بأحزان الناس فيه وجراحاتهم، فينقسم الكون إلى "ثغرين، وينهارُ الظلامْ". ورغم النار، فالناس هنا يحلمون باسترضاء الشذى، وبأزمان غارَ فيها الوردُ "واعتلّ الخُزامْ". أما الخواطر، ففيهما يحتمي الطيرُ، والحَورُ تشجو أغُصانه وتستهيم، لتسمعَ وَجعَ صَفصَافة بعيدة، يُعرّي حُزنُها ما يتراكم في طرقات الشرق من نحيب..! لا تزال ثنائية "الرعيان والقطعان" تسكننا، على الرغم مما راكمناه، وما مر علينا، من تحضّر. وبلا فائدة أو جدوى، يبقى "الرعيان بوادي والقطعان بوادي..!"، أناسٌ يعتقدون بأن أحوالهم وواديهم "طاير عم يمشي صوب الضَو"، وأن أغانيهم تكفيهم مؤونة المشوار العسير والمُكلف. وهُم يظنون أيضاً أن وادي حكامهم كبير، ويملؤه "ليلٌ كبيرٌ" أيضاً، ف"واديهن كراسيهن ويخافوا تطير، والريح تمرجح فيهن، تاخدهن وتلويهن". تلكَ هي محنة الظن والاعتقاد، التي تسكن عقول الناس وأذهانهم، في شرقنا العربي اليوم..!؟ والحقيقة أنها أكبر من ذلك بكثير، حقيقةٌ تتقرر فيها مصائر أمم وأحوالها، لسبب بسيط، هو أن أقدار الشرق العربي الجغرافية جعلته حرف "ميم" مفتوحاً على مفترق طُرق الأمم الكبيرة بكل ما فيه من موارد وأشياء أخرى..!؟