يبدو أن شهر رمضان لهذا العام لا مثيل له على الإطلاق ويأتي في ظروف استثنائية يمر بها العالم العربي، بل العالم بأسره. فعلى الصعيد السياسي، مرت المنطقة العربية ومازالت - من محيطها لخليجها - بالكثير من الاضطرابات والتحولات والتغيرات الكبرى، حيث أزيحت بعض الانظمة الدكتاتورية التي حكمت لعقود طويلة، بدءاً بتونس وثورتها الياسمينية الرائعة والتي فتحت الباب على مصراعيه لزوال الكثير من السياسات القمعية والأحزاب الفاسدة والأنظمة الدكتاتورية، مروراً بليبيا واليمن ومصر، ويبدو أن الامر لن يقف عند تلك المحطات المهمة، ولكنه مستمر في ذلك النهج التصحيحي الذي انتظرته الشعوب العربية طويلاً، ولعل النسخة السورية هي من تتصدر الان قائمة الثورات العربية الحديثة، حيث تتسارع الاحداث في هذا القطر العربي الجميل بشكل جنوني ومخيف، قد تُسقطه في أتون حرب اهلية لا يمكن التنبؤ بتداعياتها وأصدائها، القريبة والبعيدة. هذا على الصعيد السياسي، والذي يُمثل المحور المهم في مسيرة العالم العربي، هذا العالم المضطرب والملتهب منذ عقود طويلة، والذي يعيش حالياً مخاضاً حقيقياً، سعياً نحو الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية والمشاركة الفعلية، لتحقيق حلم طال انتظاره، ولكنه اصبح الآن وشيكاً وممكناً، ألا وهو العيش في اطار دولة عصرية يتمتع فيها الفرد - وكذلك كل الفئات والمكونات - بكامل الحقوق والواجبات والحريات، ولعل أهمها، بل في مقدمتها، الحياة الكريمة التي حُرم منها المواطن العربي كثيراً، رغم انها من ابسط حقوقه التي نصت عليها الشرائع والقوانين. كم هو محزن ومحبط، ونحن في شهر رمضان المبارك، شهر الصوم والعبادة والمغفرة، هذا التدهور الخطير في فكرنا وثقافتنا وسلوكنا وعلاقتنا مع الآخر، وكم هو مؤلم حد الوجع، تنامي هذه الساحات الخلافية المقيتة، تلك المنابر الكريهة التي تُهيمن عليها لغة الحقد والتعصب والتهميش أما على الصعيد الإنساني فيطل هذا الشهر الكريم بكل عبقه وسحره وروحانيته، ليبعث فينا من جديد، مظاهر الحب والرحمة والطاعة والألفة والبهجة، خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يواجهها المواطن العربي نتيجة الكثير من الضغوطات والالتزامات والصعوبات، والتي تقف أمام تطلعاته وطموحاته وأحلامه، كالعمل والسكن والصحة والتعليم وغيرها من الحقوق الاساسية التي اصبحت كالأحلام المستحيلة، بل هي أبعد من ذلك بكثير. فهل يُعقل مثلاً، بأن نسبة الأمية في العالم العربي، تتجاوز ال 45٪، وأن صحة الانسان العربي تأتي في مؤخرة قوائم الصحة العالمية، وأن قضية السكن تُعتبر القضية الاهم في حياة المواطن العربي، حيث تُشير الكثير من الدراسات العربية والعالمية إلى أن أكثر من 70٪ من المواطنين العرب لا يمتلكون منزلاً، ولكنهم يقعون فريسة لمستثمري العقارات المستأجرة والتي تلتهم غالبية مرتباتهم الضعيفة اصلا. وهل يُعقل، أن تكون البطالة بمختلف تعريفاتها ومستوياتها، تُشكل التحدي الاهم في استراتيجيات وخطط الدول العربية، هذا طبعاً في حالة وجود تلك الاستراتيجيات والخطط، رغم ما تملكه معظم الدول العربية من امكانات وقدرات، مادية وبشرية. هل يُعقل، أن تكون هذه البقعة الرائعة من العالم، والتي حباها الله بالثراء والخير والتاريخ والحضارة، تُعاني من أبسط مقومات الحياة. هل يُعقل هذا؟ أما على الصعيد الفني والدرامي، فلكل رمضان حكاية - بل حكايات - تحتل الصدارة في الجدل والنقاش، بل واللغط والخلاف، والذي قد يصل أحياناً إلى الاحتقان والصراع والتأزم. ولكن، شهر رمضان هذا العام، قد تجاوز كل الخطوط الحمراء - بل كل الالوان - التي اعتدنا عليها في الاعوام السابقة. فقضية تجسيد الصحابة في الدراما العربية، هي الحدث الاهم في عموم المشهد المجتمعي، والذي قد يصل لذروته بين مختلف الفرقاء لحد التشكيك والتخوين، بل والتكفير في أحيان كثيرة. ويُعتبر المسلسل التاريخي "عمر"، والذي يتناول شخصية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، هو العمل الدرامي الذي يواجه سيلاً من النقد والاعتراض والحرب. فبعيداً عن الشاشة الفضية، وعن تفاصيل هذا العمل الدرامي الذي لم يُشاهده الجمهور العربي حتى الان، تدور رحى حرب شعواء بين مؤيد ومعارض. ولكل اسبابه ورؤيته وبراهينه. فالمؤيدون لعرض هذا العمل التاريخي الذي يُعد الاضخم إنتاجاً في تاريخ الدراما العربية، يرون بأنه يُسلط الضوء على فترة تاريخية مضيئة تعكس الظهور الحقيقي للإسلام من خلال هذه الشخصية المحورية. أما المعارضون، وهم في اغلبهم لا يعرفون حقيقة وتأثير الفن، أو اهمية وخطورة العمل الدرامي، سواء على الصعيد العربي أو العالمي، حيث يرى هؤلاء بأن تجسيد الصحابة في الدراما التلفزيونية يُشكل انتهاكاً وانتقاصاً لهذه الشخصيات الاسلامية الكبيرة، غير مدركين أهمية العمل الدرامي كوسيط فعّال وكمؤثر خطير في تشكيل وصياغة وعي وفكر المشاهد، مهما كان هذا المشاهد. نعم، يبدو أن شهر رمضان الحالي يختلف كثيراً عن السنوات الماضية، وإن كان مسلسل الاحتقان الطائفي في فكرنا ومزاجنا وسلوكنا، وفي الكثير من تفاصيلنا، مازال يحصد الإعجاب والتصفيق والمتابعة، خاصة في وسائل الاعلام الجديد، كالفيس بوك وتويتر، وهي أدوات رائعة وضعت لخدمة وثقافة ورفاهية الإنسان لا أن تُستغل - بكل أسف - في إشاعة الكراهية والطائفية والقبلية والإقصاء والتمييز. كم هو محزن ومحبط، ونحن في شهر رمضان المبارك، شهر الصوم والعبادة والمغفرة، هذا التدهور الخطير في فكرنا وثقافتنا وسلوكنا وعلاقتنا مع الآخر، وكم هو مؤلم حد الوجع، تنامي هذه الساحات الخلافية المقيتة، تلك المنابر الكريهة التي تُهيمن عليها لغة الحقد والتعصب والتهميش. للأسف الشديد، رمضان لم يعد كما كان، شهراً للمحبة والإخاء والتقارب والالتقاء والتسامح، ولكنه أصبح دعوةً للكره وتصفيةً للحسابات.