لم يعد الفن مجرد هواية وترفيه واستعراض، ولكنه أصبح صناعة لها مقوماتها وأسسها، بل هي ترس مهم جداً في عجلة التنمية والازدهار في كل البلاد التي اهتمت بهذا القطاع الحيوي المهم كعادة كل التفاصيل الجميلة التي تنسج وتلون حياتنا، مر شهر رمضان الكريم هذا العام سريعاً وخاطفاً بعد أن غسل وطهّر ما تيسر من قلوبنا وعقولنا وسلوكنا بنفحاته الإيمانية وبأجوائه الروحانية التي مازال شذاها ينثر الفرحة والسعادة والأمل متناغماً ومتجانساً مع بهجة عيد الفطر السعيد الذي كان أجمل هدايا رمضان الكريم قبل أن يرحل. ويُعتبر شهر رمضان الفضيل بالنسبة لنا نحن معشر الكتاب مصدراً خصباً وثرياً للكتابة، بل موسماً رائجاً وسوقاً مربحاً، تماماً كما هو الحال مع كل وسائل الإعلام والإعلان المختلفة التي تعتبر هذا الشهر الفضيل بمثابة قمة الذروة الجماهيرية، حيث تتسابق الفضائيات والإذاعات والصحف في عرض كل ما لديها من برامج ومسلسلات لجذب الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج، بل وفي كل بقاع الدنيا. لم يعد رمضان شهراً للصوم والعبادة، وفرصة لمراجعة النفس، وعنواناً للتراحم والترابط، وعودة لبعض العادات والتقاليد الجميلة، رمضان وبكل أسف لم يعد كذلك، بل أصبح "بزاراً" ضخماً تُعرض فيه منتجات الفن الهابط وبرامج التهريج والإسفاف. نعم قد تكون هناك بعض المبادرات والمحاولات التي تستحق الإعجاب والإشادة، ولكنها قليلة جداً وضائعة في ذلك الزحام الفني الرمضاني الذي يعج بذلك الإنتاج المتدني الذي يستخف بعقول وفكر المشاهدين. ولأنني سأتناول قضية الدراما السعودية في رمضان، فضلت أن أتأنى قليلاًًً ليتسنى لي الحكم على المشهد الدرامي الرمضاني بشكل كامل. الدراما السعودية الرمضانية لهذا العام تحتاج إلى وقفة بل وقفات تأمل ودراسة ونقد، وتلك جوانب مهمة ومعقدة لا يمكن الإحاطة بها في مقال محدود كهذا، ولكن لا بأس بإطلالة سريعة ومكثفة حول ما قُدم من "دراما سعودية"، رغم الالتباس الشديد الذي قد يحمله البعض منا، لاسيما المشتغلين بالمجال الفني، حول هوية هذه الأعمال الدرامية، وهل يمكن بالفعل التسليم بان لدينا دراما ذات صبغة أو طابع سعودي كالدراما الكويتية أو البحرينية على أقل تقدير. ويبدو أن ذلك الالتباس وتلك الإشكالية تطال العديد من المجالات والقطاعات والطموحات الوطنية! لقد تم إنتاج أكثر من 100 مسلسل عربي خصيصاً لرمضان هذا العام، وبلغت تكلفة هذا الإنتاج الضخم أكثر من 300 مليون دولار، وقد كان نصيب الدراما السعودية من تلك الحصيلة الكبيرة 13 مسلسلاً، كلها من إنتاج القطاع الخاص ماعدا "صراع"، وهو المسلسل الوحيد الذي أنتجه التلفزيون السعودي وتدور أحداثه في خمسينيات القرن الماضي. وبصراحة شديدة، لم تستطع تلك الأعمال الدرامية المحلية أن تخرج من شرنقة البدايات والتجريب والاستعجال والتكرار، فمثلاً سقط "طاش ما طاش"، وهو المسلسل الأشهر الذي يحظى بمشاهدة عالية حتى خارج أسوار الوطن في فخ التكرار واجترار الموضوعات والشخصيات، وبرغم الجرأة الزائدة التي امتازت بها بعض حلقاته، إلا أن القائمين على هذا المسلسل، وخاصة نجميه المخضرمين، لم يُدركوا وبعد 17عاماً أن الدراما ليست مجرد فكرة جميلة أو جريئة، بل الدراما الحقيقية هي عرض هذه الفكرة بشكل متقن وبرؤية درامية واعية. طاش هذا العام لا يختلف كثيراً عن طاش بنسخته الأولى قبل 17 عاماً. ويبدو أن مسلسل الإخفاق مستمر مع باقي المحاولات المتواضعة التي يقدمه فهد الحيان في "غشمشم5"، والعسيري والشمراني في "بيني وبينك4"، وفايز المالكي في "سكتم بكتم"، ومحمد العيسى في "مزحة برزحة"، وباقي الأعمال الرمضانية السعودية الأخرى. لقد كانت مائدة الدراما الرمضانية السعودية بلا طعم أو نكهة، وجاءت مخيبة للآمال والطموحات، ولم تُحقق التوازن بين الكم والكيف، ولم تعكس الفهم الحقيقي للدور المهم للدراما، وللفن بشكل عام. ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية التي أدت لتراجع أو فشل الدراما السعودية ببعض النقاط، أهمها التقليد والاستنساخ الذي طغى على معظم الأعمال المقدمة، والتكرار والتشابه في الأفكار والموضوعات والشخصيات، والتركيز على النجم دون الاهتمام بالتفاصيل الأخرى كالإخراج والنص والحوار والممثلين المشاركين، كذلك الإصرار على تقديم كل الأعمال تقريباً بلون واحد وهو الكوميدي وإغفال باقي الأنماط الأخرى، وأيضاً الاقتصار على مجموعة قليلة من الممثلين والممثلات مما يُسبب إرباكا والتباسا لدى المشاهدين الذين يُتابعون أكثر من عمل. لم يعد الفن مجرد هواية وترفيه واستعراض، ولكنه أصبح صناعة لها مقوماتها وأسسها، بل هي ترس مهم جداً في عجلة التنمية والازدهار في كل البلاد التي اهتمت بهذا القطاع الحيوي المهم، بينما لم نتجاوز نحن بعد المربع الأول، مربع الجهل والخوف والتشكيك وسد الذرائع. ويبدو أن الوقت قد حان للاهتمام والنهوض بمستوى الدراما المحلية. إنشاء معاهد للفنون، واستحداث بعض الأقسام الخاصة بهذا المجال في جامعاتنا، ابتعاث الموهوبين والموهوبات لدراسة الفن في بلاد الفن كأمريكا وفرنسا وإيطاليا، الحلول كثيرة، ولكن الأمر بحاجة إلى خطوة جريئة، فمن يُعلق الجرس!