رغم أن هنالك من حاول في حينه إسقاط قصيدة "مصطفى" للشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني على بعض الزعامات، أو على فكرة المخلّص التي وردت كثيرا في شعره ، إلا أنني أجد فيها نبوءة لهذه الثورات التي قامت بلا زعامات ولا قيادات ، وإنما تمّت على يد "مصطفى" المواطن العربي البسيط والمقموع في عيشه وفي كرامته، أجدها في هؤلاء الذين يوارون موتاهم الثرى في حمص ودرعا وحماة وحلب ودير الزور ، ثم يتسابقون بصدورهم العارية ليأخذوا دورهم في طابور الموت بعد أن ألفوه، حيث يوغل الأسد ونظامه بدم شعبه كلما ضاق عليه الخناق ، ليترجم بكل جلاء فكرة (إن المخيفين أخوف) التي وردت في القصيدة .. إذ كلما زاد البطش كشف عن حجم رعب مرتكبيه. ولعل البردوني يكون بهذا من أوائل " المبصرين " الذين تنبأوا بالربيع العربي مبكرا ، عندما اقتحم وجدان مصطفى (المواطن العربي ) صاحب القميص المنتّف ، المضطهد بلقمة عيشه ، وتحسس بفرادته الشعرية كيف تضطرم نيران الثورة المؤجلة بين أضلاعه رغم جحافل المخيفين ليكتب في العام 1986 م قصيدة مصطفى التي أجتزىء منها: فليقصفوا لستَ مقصفْ.. وليعنفوا أنتَ أعنفْ / وليحشدوا أنتَ تدري.. أن المخيفين أخوفْ / أغنى ولكنّ أشقى .. أوهى ، ولكنّ أجلفْ / لهم حديدٌ ونارٌ .. وهم من القش أضعفْ / يخشون إمكان موتٍ .. وأنتَ للموتِ أألفْ / لأنهم لهواهم .. وأنتَ بالناس أكلفْ / كفجأة الغيبِ تهمي .. وكالبراكين تزحفْ / تنثال عيداً ربيعاً .. تمتد مشتى ومصيفْ / نسغاً إلى كل جذرٍ .. نبضاً إلى كل معزفْ / يا مصطفى أيّ سرٍّ .. تحت القميص المنتفْ ؟ / هل أنتَ أرهف لمحاً .. لأن عودك أنحفْ ؟ / أأنتَ أخصب قلباً .. لأن بيتك أعجفْ ؟ / هل أنتَ أرغد حلماً .. لأن محياك أشظفْ ؟ / من كل نبضٍ تغني .. ويبكون " من سِبّ أهيفْ " . يصور هنا نبض الألم كأغنيات لشحذ الهمم ، مقابل من يبكي ترفا وعشقا (من سب أهيف مبرقع والعبيد اثنين) كما تقول الأغنية اليمانية الشهيرة .. ثم يمضي في وصف مصطفى الذي سيُقتل , لكنه سيأتي أشد عصفاً من آخر القتل : فلا وراءك ملهى .. ولا أمامك مصرفْ / قد يقتلونك تأتي .. من آخر القتل أعصفْ /لأن موتك أحيا .. من عمر مليون مترفْ / يا مصطفى يا كتاباً .. من كل قلب تألفْ / ويا زماناً سيأتي .. يمحو الزمان المزيّفْ . أليس هذا المصطفى هو " مصطفى : بوعزيزي " ومصطفى : خالد سعيد " ، و" مصطفى : فراس الخطيب ، وسواهم ممن كشفوا خوف المخيفين ، الذين توهموا أن تلك القمصان المنتفة ، والنفوس المحطمة تحتها بسلاح الخوف ، لن تجرؤ على دكّ أركانه ، والعودة مجددا إلى الحياة ؟ ألم تفضح قوافل الشهداء اليومية تلك الأنظمة التي أسستْ شرعيتها على البطش كغطاء تضليلي لخوفهم هم من شعوبهم المقهورة، عندما ظنّوا أنه سيقيهم غضبتها ، وسيبقيهم إلى الأبد بكل توحشهم ونهمهم فوق رؤوس شعوبهم إلى أن تهلكهم بالموت تخمة الزعامة؟!