إكرام اللحية سنة نبوية، فقد أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «حفوا الشوارب وأكرموا اللحى» أو كما قال. وإكرام اللحية بالمحافظة عليها والعناية بها. وحف الشوارب قصها وتخفيفها ولا يعني حلاقتها. والعرب يكرمون لحاحهم: ولا يزهى الرجال الا لحاهم ولا يزهى اللحى الا الفعال وقد يهتم بعضهم بإطالة الشوارب وتشذيب اللحى: شواربه ما دنقن يم الادناس لا باول الشيبة ولا بالشباب ولذلك معان ورموز ومقاصد منها الاعتداد بالنفس. ويظل الاهتمام والعناية باللحية رمزا يعبر عن القدوة الحسنة والامتثال لسنن الشريعة السَّنِية، ويميز ذوي الشأن وأهل الثقة بأنفسهم عمن سواهم ممن يرون في حلق اللحية تجميلا يبرز محاسنهم، ويرى البدو في الابقاء على اللحية إضافة إلى التكريم بأنها علامة فارقة بين الرجولة التي تتجسد في الأفعال النبيلة وتتجلى في محيا كل شجاع وكريم، وبين من يهتم بجمال الشكل ونعومة المظهر، وكم فاخر البدوي بلحيته التي يرى أنها العلامة الفارقة بين الرجال والنساء. وكثيرا ما نرى من يمسك منهم بلحيته تعبيراً عن التزامه بأمر وعد بتنفيذه، أو يلتزم به. وعلى أية حال لا تقاس الأفعال الجميلة بمظهر معين، فكم من ذي لحية لم يحترمها وكم من حليق لحية هو أقرب للتقوى. ولقد روي عن أحد حكام مكةالمكرمة من الأشراف أنه رأى تبكير المزارعين في الزراعة قبل وقت البذر مما يؤدي إلى عدم صلاح الانتاج، فأمر بأن يتم البذر عند حلول وقته وفق ما يشير به خبراء الزراعة، وحذر من يخالف أمره بإيقاع عقوبة حلق اللحية عليه.ليس أمام المزارعين إلا الامتثال فإكرام اللحية من القيم المرعية، وحلاقتها من الأمور المعيبة. لذا امتثل المزارعون لأوامر الحاكم خشية العقاب، غير أن رجلاً أغرته ابنته بعدم تنفيذ الأوامر حتى وإن أدى ذلك إلى حلق لحيته، ورغَّبته بكسب أرباح السوق حين يسابق الآخرين بتسويق إنتاجه، فلم يلتزم بتنفيذ أوامر الحاكم. لم يمهل المزارعون الآخرون الرجل، بل بادروا بإخبار الحاكم بعدم التزامه بتنفيذ الأوامر فاستدعاه وأنبه، فاعتذر الرجل راداً مخالفته إلى نصح ابنته، وكان ذلك مغايراً لما عرف في زمنهم عن الأخذ بمشورة المرأة أو سماع رأيها، فاعتقد الحاكم أن لهذه الفتاة شأنا بين أسرتها نتيجة لقوة شخصيتها، فأراد امتحانها بواسطة والدها البسيط فأعطاه سبع عمائم وطلب منه أن يُلبسها سبعة ثيران ويحضرها إليه. أخذ الرجل العمائم ودفعها إلى ابنته وبين لها طلب الحاكم، فأخذتها الفتاة وذهبت معه إلى السوق كما يذهب مقدمو برامج مسابقات التلفيزيون، وأخذت تسأل الناس أسئلة لا ينبغي أن تغيب إجاباتها عن أذهانهم، فمن أجاب شكرته ومن يخطئ في الإجابة استبقته معها، حتى اجتمع لديها سبعة عدتهم ثيرانا أو كالبهائم، لأنهم لا يهتمون بأمور زمانهم التي لها علاقة بصلاح أحوالهم، وقد أشعرتهم بأن لهم جوائز مقدمة من الحاكم لحسن إجاباتهم، وطلبت منهم مقابلة الحاكم بهذه العمائم التي تميزهم عند دخول القصر صحبة والدها. سأل الحاكم كل واحد منهم عن السؤال الذي وجهته الفتاة إليه وعن إجابته فعرف ذكاءها، ومنح والدها خروفا وطلب منه ردَّ ست قطع من لحمه، كل اثنتين لكل واحدة منهما علاقة بالأخرى، فأحضرت الفتاة قصابا وطلبت منه ربط العين بالأذن وربط الرِّجل بالقلب وربط (...) بالمعدة، وكانت تعني بذلك أنه إذا رأت العين أصغت الأذن، وأن الرِّجل تذهب حيث يحب القلب، أو كما يقولون: «الرِّجل تدب مطرح ما تحب» وأن المعدة أذ امتلأت استيقظت الشهوة. أعجب الحاكم بذلك فدفع إلى والدها حجراً وطلب منه أن تصنع ابنته من الحجر ثوباً، فدفعت لأبيها مروة وهي حجر أبيض، وطلبت من الحاكم الأمر بتحويلها إلى خيوط لتخيط بها الثوب. وهنا زاد إعجاب الحاكم بالفتاة وسأل والدها: هل هي متزوجة؟ فأجابه بأنها غير متزوجة، فطلب منه عقد قرانه بها، فسر الفلاح بذلك وتم عقد القران ولم يتم الدخول بها، وأعطاه الحاكم فرساً وقال له: شرطي أن أعود من سفري وقد حملت الفتاة مني ولقحت الفرس من حصاني الذي أصحبه في سفري إلى المدينةالمنورة. كل ذلك يود أن ينتصر على الفتاة التي لم تعجزها أسئلته. عاد الفلاح إلى ابنته مكتئباً لصعوبة تنفيذ شرطي الحاكم الذي رهن إتمام مراسم عقد القران بتنفيذ شرطيه، وعندما أخبر الفتاة لم تعجزها الحيلة وهونت الأمر على أبيها وطلبت منه إعداد موكب لها وتهيئة سفرها عبر الطريق التي يسلك الحاكم ومعرفة الموارد التي يتوقف قربها للراحة، ومضت إليها قبل سفر الحاكم وأقامت على بعد يسير من مخيم الحاكم، وفي الليل لبست ملابس رجل عراقي (عبدالله) وذهبت إلى مجلس الحاكم وكلمته عن رحلتها من المواصل لأداء العمرة وأن معها هدية من والي المواصل للحاكم، جارية لا تفوقها أخرى في الجمال، فقال: يا عبدالله ضعها في خيمة خاصة وسأحضر لرؤيتها. قدم الحاكم إلى الخيمة المعدة ولم يكن بها غير الجارية، فأعجب بجمالها وبمسامرتها وقضى طرفا من الليل معها ثم غادرها بعد أن تمكن أتباع الفتاة من تمكين حصان الحاكم من تلقيح الفرس التي كانت تمتطيها الفتاة (عبدالله). وقد استولت على خاتمه دون شعوره، وعادت إلى مكةالمكرمة حاملاً وبيدها رسالة توصية منه لديوان الحاكم في مكة لتكريم الضيف العراقي والجارية. عاد الحاكم إلى ديوانه في مكة ولم يجد خبراً عن الضيف العراقي ولا هديته، وجاء الفلاح إلى والد الفتاة وأخبره بنفاذ شرطي الحاكم بشأن حمل الفتاة ولقاح الفرس، فأنكر الحاكم ذلك ولكن الفتاة قدمت له الدليل القاطع على كل ما حدث وسلمته رسالة التوصية والخاتم فاستسلم الحاكم وانتصرت الفتاة. هذه الحكاية لا شك في صناعتها واقتباس أجزائها من الموروث الثقافي، للدلالة على أن الذكاء ليس حكرا على الرجال وإنما هو هبة يتقاسمها الرجل والمرأة. وهذه الصياغة من أبواب الأدب الشعبي، فيها من التشويق والتضمين والمفاجأة وغيرها من الأمور الفنية ما يميزها عن الكلام الشعبي السائر، وما قصة الجارية تودد إلا من هذا القبيل للدلالة على المستوى الثقافي في العصر العباسي. ومثل ذلك كثير، مهما اختلف شكلا واتفق مضمونا، وقد أورد منديل الفهيد رحمه الله هذه القصة في كتابه: «من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية»، ورويتها وفق ما حفظت عن رواة سابقين، وقد تروى بخلاف ذلك. وبما أن الأدب الشعبي هو أدب شفهي فإن طرحه قد يختلف من راو لآخر ومن بيئة لأخرى حسب مقدرة الراوي على النقل وحسب مقاصد الرواية وتوافقها مع قيم البيئة، وقد تتأثر الرواية لعوامل أخرى عديدة، وعلينا ألا نسلبها حق النشأة الذي لم يغفله الرواة تأكيداً أو تمديداً كقولهم: كان يا ما كان دلالة على قدم الحدث الذي ينشأ في محيط يختلف عن محيط المتلقي الذي قد ينكر الأحداث لعدم توافقها مع قيم زمنه، كما يجئ عادة في تعليقات بعض القراء، الذين لا يتقبلون بعض الروايات لتعارضها مع السائد من القيم. والكاتب ينقل الرواية وفق ما وقف عليه من أحداثها وقد لا يساعده حيز النشر على الإبانة والتوضيح والتحليل، كما أنه ليس بالضرورة التنويه عن موافقة الكاتب من عدمها على ما تجري به الأحداث إلا عندما يستخدمها في الوعظ والنصح، ولمن يستنكر الثناء على أعمال السابقين أن يقارن بين معطيات عصرهم محدود العطاء العلمي والثقافي والاقتصادي ومعطيات عصره المدعمة بالعلم والخبرة والفضل ومع ذلك يظل أفقه ضيقا وتفاعله محدوداً ونظرته بعيدة عن التسامح والعفو. وكل عام وانتم بخير.