في تاريخ سوريا الحديث، وقبل وصول الفريق حافظ الأسد إلى السلطة في بداية السبعينات من القرن الماضي، عرفت الانقلابات العسكرية ازدهاراً كبيراً. فلئن بدأ الزعيم حسني الزعيم انقلابه الأول بعد نكبة 1948 بقليل، فقد تلت هذا الانقلاب انقلابات كثيرة من أشهرها انقلاب أديب الشيشكلي وانقلاب سامي الحناوي. ولأن المذهبية، أو الطائفية، لم تكن قد عرفت طريقها بعد لا إلى الجيش السوري ولا إلى سوريا نفسها، فإن الانقلابات لم يكن من سبب موجب لها عند من يقوم بها، سوى تراخي السلطة الحاكمة في الاصلاح أو تقصيرها في واجب الدفاع عن عروبة فلسطين. وكان مثل هذا السبب كافياً لاقناع الرأي العام بمشروعية الانقلاب ولتأمين وصول ناجح لقادته إلى السلطة. أما كيف كانت الشرارة الأولى للانقلاب تندلع، فعن طريق تمرد فرقة عسكرية هنا أو هناك، تتجاوب معها فرقة أو فرق أخرى على الفور، سواء بطريقة عفوية أو بتدبير مسبق بين ضباط كبار. وكان الذي يحسم أمر نجاح الانقلاب سيطرة الانقلابيين على الإذاعة في دمشق، أو التهديد بالزحف على العاصمة. وكان هذا كافياً لكي تقدم الفئة الحاكمة استقالتها من السلطة وتجمع حقائبها وترحل. ولكن الجيش السوري فقد تقاليده الانقلابية هذه بمجرد وصول الفريق حافظ الأسد إلى السلطة ومعه توجهه المذهبي في السرّ وتوجهه الحزبي أو البعثي في الظاهر. فقد عمل على بناء جيش جديد يدين بالولاء المطلق له لا للوطن كما تدين الجيوش عادة. وقد تطلب الأمر عناءً كبيراً حتى أمكنه تحقيق ذلك لأن الطائفة العلوية لا يمكنها وحدها أن تؤلف كل عديد الجيش، فهي إحدى الأقليات الصغيرة في سوريا، ولا بد والحالة هذه، من أن يكون للمسلمين، وهم غالبية الشعب، وجود بارز في هذا الجيش. ما الذي فعله الأسد؟ أعطى الحصة الراجحة في قيادة وحدات الجيش وأجهزته الأمنية لأبناء الطائفة العلوية، وترك الباقي، وهو قليل، بعهدة ضباط سنّة موالين له ولاءً مطلقاً، مثل اللواء مصطفى طلاس الذي تسلّم لاحقاً، ولسنوات طويلة منصب وزير الدفاع. أما الجنود فلم يكن لديه مانع من أن يكونوا ولو في أكثريتهم من المسلمين السنّة، إذ لا شأن يذكر للجندي لأن الإمرة بيد قائده لا بيده. مع الوقت كان من الطبيعي أن يفقد الجيش السوري خصائص الجيوش التي تنحصر مهماتها في الدفاع عن الوطن وحدوده، ليتحول إلى «جيش» مهمته الدفاع عن النظام السياسي الطائفي الذي استولى على السلطة بالإكراه، أو ليتحول، على الأصح، إلى مليشيا مهمتها داخلية تنحصر في السيطرة على المدن والأرياف السورية. والواقع أن هذا هو ما يلحظه الباحث في تاريخ سوريا زمن الأسد الأب والأسد الابن. فلا أفق أو مدى جغرافياً ينشط فيه هذا الجيش إلا الأفق أو المدى الداخلي لا غير. هذا مع استثناء «تكليفه» بالمهمة الطويلة الأمد التي اضطلع بها في لبنان وكان على رأس أولوياته فيها الإجهاز على فصائل المقاومة الفلسطينية وفي الطليعة منها منظمة فتح. أما الجولان فقد استعار الأسد من سيبريا برودتها وثلجها ليحوّلها إلى منطقة صقيع لا يمكن لأي سوري أن يقترب منها سواء كان جيشاً أو مقاومة. إذن ثمة جديد نوعي طرأ على «عقيدة» الجيش السوري خلال حكم الأسدين. فالعدو ليس في الخارج، وبالتحديد على جبهة الجولان، بل هو في الداخل بالذات. إنه هذا السنّي الذي جرى تنويمه بالرعب والتخويف حيناً وحيناً آخر بالإعلام الذكي المدروس انطلاقاً من «الرسالة الخالدة» و«تحرير فلسطين» في مستقبل قريب، وكذلك بمقولات «الصمود والتصدي» وأخيراً «بالممانعة» التي لم يتمكن أحد من فك شيفرتها حتى الساعة. وطرأ ايضاً ما عزز تحويل الجيش من جيش إلى ميليشيا. قبل حكم الأسدين، كانت أكثر الأسلحة المشتراة للجيش الشوري أسلحة معدة للقتال ضد عدو خارجي. زمن حكم الأسدين، باتت أكثر مشتريات الجيش السوري من الخارج أسلحة معدة للاستعمال ضد المظاهرات والحركات الشعبية الداخلية. وهذا يعني بصريح العبارة أن الجيش السوري، وعلى مدى حوالي نصف قرن، لم يكن لديه عدّة وعتاد الجيوش التقليدية المعروفة، بل عدة وعتاد قوى الأمن الداخلي من شرطة ودرك وأمن داخلي ولكن أكثر ما فقده خلال هذه المرحلة كان أكثر وأفدح من ذلك. لقد فقد هويته كجيش وطني لعموم وطنه وشعبه، لسوريا كلها، وبات في واقع أمره جيش الطائفة العلوية دون سواها، وجيش النخبة العلوية الحاكمة بزعامة آل الأسد. وعندما تمكن حافظ الأسد بالدرجة الأولى، من تحقيق ذلك، على النحو الكامل الذي طمح إليه، وبالتعاون بالطبع مع قوى خارجية، وقبض على عنق سوريا قبضاً محكماً، تعذّر قيام أي إنقلاب عسكري ضده. فالوحدات والفرق العسكرية كلها بإمرته وتحت مراقبته. وأقصى ما بات بإمكان الضباط والجنود الوطنيين الآخرين أن يفعلوه، هو هذه الانشقاقات الفردية التي نراها. أما أن تنضم فرقة عسكرية في حلب أو في غير حلب إلى الثورة، أو أن ينتصر الجيش للشعب كما حصل في تونس ومصر، فأمر لم يحصل لأن الجيش كان جيش طائفة ومذهب ونظام ولم يكن جيشاً وطنياً بالمعنى المعروف للكلمة!