المراقب للمشهد الداخلي في التعامل مع الإرهاب يلحظ أن الجهد العام يكاد يكون محصوراً في التعاطي الأمني، وهو فعّال وناجح ومُبهر.. إلا أن فعاليته قصيرة المدى، فالاعتماد عليه وحده، وفي حال استمراره، قد يقود إلى فتنة داخلية، وردّة فعل سيئة تجاه النظام والدولة، خاصة إذا وَجدتْ شرائح من المجتمع أن أعداداً كبيرة من الأسر قد فقدت الابن والعائل والزوج والقريب، إما بالهرب والتخفي، أو بالسجن، أو بالقتل.. كما أنه ليس من الإنصاف والعدل أن نضع عبء مكافحة الإرهاب على المؤسسات الأمنية وحدها، فالأمن وأدواته - عادة - هو الخيار الأخير، وليس الأول. ومع التسليم بوجود جهود فكرية مصاحبة للجهد الأمني، إلا أنها جهود تتسم - إلى حد كبير - بالسطحية والتقليدية، والعاطفية وضعف التأثير، وتتعامل مع أعراض المشكلة، وليس مع جذورها، وذلك عبر آليات (المحاورة) مع الإرهابيين، و(التوعية) مع المتعاطفين من سائر أفراد المجتمع.. هذه الجهود (الفكرية) قد تعالج حالات فردية بالتراجع والتوبة، لكنها لا تُوقف جهود التجنيد، ولا تُضعف تخلّق الإرهابيين، ولا تقضي على تعاطف المتعاطفين بالحماية والتمويل.. باختصار، لا تعالج المشكلة من أساسها، ولا تجتث الظاهرة من جذورها. لقد فرحنا - دولة ومجتمعاً - عندما توصّلت المؤسسة الأمنية بنجاح باهر إلى رؤوس الشر والفتنة، ونُشرتْ قائمة ال (26) مطلوباً على الملأ.. وشاعت القناعة، بعدما تسارعت وتيرة القضاء على هذه القائمة بالقتل والقبض، بأن نهاية ظاهرة الإرهاب ما هي إلا مسألة وقت، ومن ثمَّ يختفي الإرهاب، ونتنفس بعدها الصعداء ! يا ليت ذلك كذلك. لكن الأمر ليس كذلك، فقد بدا واضحاً للمراقب المتخصص، أن الإرهابيين أكثر من القائمة المشار إليها، والقائمة تزداد وتتجدد، واتضح أن مكافحة الإرهاب في المملكة تتطلب ما هو أعمق من (المحاورة) مع الضالين، وما هو أكثر من (التوعية) مع المتعاطفين، وبدا جلياً - أيضاً - أن الإرهاب (بخير) لأن جذوره ومناخاته (بخير)، ولم يُقض عليها بعد، فهي متمددة، في الفكر والثقافة، وفي مؤسسات الدولة، وفي بنية المجتمع المحلية، وأن الإرهاب وإن قوي وضعف، وظهر وكمن، تبعاً لظروف محلية وإقليمية ودولية، سيظل موجوداً.. هذه الجذور والمناخات، وبسبب سيطرتها شبه المطلقة، وجاذبيتها للشباب والعامة تفاعلاً وتعاطفاً، وعدم وجود ما يزاحمها مساحة، أو ما ينافسها تقبلاً، على ساحة الفكر والدعوة والوعظ والإرشاد والثقافة والإعلام والتعليم والتربية، أو حتى على مستوى الممارسات الحياتية اليومية للمواطن البسيط، قد أنتجت لنا أفواجاً من الإرهابيين الصغار، وشرائح واسعة من المتعاطفين الكبار. إن الخطر الحقيقي الذي يواجه الدولة، ويجب أن تتنّبه له، وتُوجه له كافة استراتيجيتها، ليست قوائم الإرهابيين أو المطلوبين مهما طالت، فهؤلاء مقدور على اقتناصهم، عاجلاً أم آجلاً.. (الخطر الحقيقي) هو في تلك الدوائر المتداخلة من المتعاطفين، التي تعيش بيننا ومعنا، وتنقل فيروس الإرهاب في شرايينها، وتُمّد - باستمرار - المجتمع بالإرهابيين، وتساعدهم لوجستياً وعاطفياً، أو تُقدّم لهم الحماية والتمويل، ناهيك عن حرية الحركة وشرعية التصرفات. ويأتي خطر هذه الدوائر من أننا، على خلاف المجتمعات الأخرى، التي يظل الإرهاب فيها مهما اشتد وقوي، يظل محصوراً في أعداد محدودة، وعلى هوامش المجتمع وحواشيه، يميناً ويساراً، وليس في وسطه.. ومن هنا تأتي أهمية أن تُثار الأسئلة الكبرى التي تنفذ إلى العمق، وتُعيننا على التعرف على الأسباب والدوافع، والعوامل والمناخات، والظروف والمنابع، التي تُغذّي الإرهاب داخل المجتمع السعودي، وتُعيد إنتاجه، وتجدد خلاياه، وتنشره، وتُروّج له، وتجعل الشاب البريء (إرهابياً)، والمواطن البسيط (متعاطفاً)، وهنا تحديداً، يجب أن ينصب الجهد، ومن هنا - أيضاً - تبدأ جهود المعالجة. لقد بات واضحاً أن هناك إطاراً فكرياً وأرضية اجتماعية مهيئة، أعطيا الإرهاب سهولة التجنيد، و«جاذبية» الحماس في عقول الشباب وقلوبهم، و«تعاطفية» القبول في نفوس شرائح واسعة من المجتمع السعودي، بدرجات مختلفة، وهنا، مكمن الخطر، وبيت الداء، وفي الوقت نفسه، مصل الدواء. وفي المجتمع السعودي، لا يجد الباحث الاجتماعي صعوبة في الجزم، بثقة علمية، بأن ذلك الضخ المتواصل والمُركّز المنبعث من الخطاب الديني، الذي سيطر على بعض وسائل الاتصال الجماهيري، وعلى ساحة المجتمع وبعض مؤسساته الدينية والتعليمية والتربوية والإعلامية، ردحاً من الزمن، واتسم بالتشدد والتعبوية والنصية والأحادية والفوقية والاقصائية وكُره المخالف، ووجَّه رسائله النارية المُغرية لبعض شرائح المجتمع، (لا بد)، بسبب ذلك (الضخ المتواصل) أن يجد الإرهاب، بشتى أنواعه الفكرية والحركية لنفسه (تعبيراً) في زمان مُعيّن، وفي مكان مُعيّن، وفي شخص مُعيّن، وفي ظرف مُعيّن.. أما الطرق على العوامل النفسية (الإحباط)، أو السياسية (الديموقراطية)، أو سوء الأحوال المعيشية (الفقر)، التي يُقال أنها تُولّد الإرهاب، فهذه مجرد تفاصيل، أو مُغريات، أو مُحفزّات، ليس إلا.. خاصة في المجتمع السعودي. ، التي تعترض حياة السعودي البسيط، مما أكسبه جماهيرية وجاذبية وشعبية بين مختلف الأوساط، في ظل غياب الخطاب الديني التقليدي الذي حصر نفسه في مسائل الحلال والحرام، مما أفقده شعبيته وتأثيره، وقدرته التوجيهية والتنويرية على الشباب، وتوارى بعيداً عن الأنظار. وإذا كان المجتمع السعودي يُوصف بأنه مجتمع مُتدّين، ومحافظ بطبيعته، وهذا صحيح، فإن اقتلاع جذور الإرهاب فيه لن يكون عبر (لبرلة) المجتمع، أو (علمنته)، أو (تغريبه)، أو (أمركته)، كما يدعو البعض، فهذا الطرح لن ينجح، ولن يجد القبول الشعبي والتفاعل المجتمعي، ولن يحوز على رضا عقلاء المجتمع وساسته. إن المعالجة الحقيقية لظاهرة الإرهاب، واجتثاثها من جذورها، في المجتمع السعودي، ممكنة عبر الخروج باستراتيجية وطنية شاملة، تقوم على مسارين متوازيين، المسار الأول، تجديد الخطاب الديني نفسه، والسعي إلى إظهار خطاب ديني متسامح مستنير، وتصالحي مع النفس ومع الآخر، في الداخل والخارج.. خطاب واقعي هادئ، يُقدّم توصيفاً جذاباً وراشداً لموقع الإنسان السعودي في الكون والحياة، ويستجيب للمسائل الكبرى التي تُواجه وتُقلق (سعودي القرن الواحد والعشرين)، الذي يعيش في قرية كونية، مع أهمية أن يكون ذلك عبر عمل مؤسسي، يُنتج هذا الخطاب ويراقبه ويصونه، ويُحافظ على وسطيته، ويضمن استمراريته، ويحمي معتنقيه والمدافعين عنه. والمسار الثاني، هندسة المجتمع هندسة شاملة.. هندسة تتناول عدداً من المجالات الحيوية ذات المساس بالشأن العام، وفي أدوار الدولة ووظائفها وخدماتها، وفي بُنية المجتمع ومؤسساته، من أجل (إضعاف جاذبية) الأيدلوجيا المتشددة التي (لَحسَتْ)، ونخرت في عقول الصغار وقلوبهم ووجداناتهم، وتشبّعت بها نفوس المتعاطفين من الكبار. ولكي تنجح جهود المملكة في مكافحة الإرهاب عبر هذه الاستراتيجية، فلابد -أيضاً - من مرجعية مُوحّدة لهذه الاستراتيجية في الدولة، يكون لديها هذا «الملف».. مرجعية تكون من مهماتها أن تدرس، وتتابع، وتجمع المعلومات، وتُقدّم الدراسات والأبحاث، وتُقيّم الجهود، وتُمدّ ولاة الأمر بتقارير دورية على مدى تقدم جهود المعالجة، والعقبات والمعوقات، إن وُجدت، بأسلوب علمي واحترافي. إن أمام الدولة، الآن، فرصة تاريخية ذهبية قد لا تتكرر في أي مفصل تاريخي من تاريخ تطور المملكة السياسي والاجتماعي، ليس فقط لكسر عظم الإرهاب والتشدد والتزمت والانغلاق.. ولكن لإحداث تغيرات نوعية واسعة في هيكلية الدولة ومؤسساتها وآليات عملها، وإصلاح شامل في بنية المجتمع السعودي وثقافته، وفي مؤسساته الدينية والرسمية والخيرية والأهلية، وفي مجالات وقضايا ما زال بعضها يُعد من «المُحرّمات» الدينية والاجتماعية والسياسية والإدارية مثل: تحديث بعض مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها، الشفافية في الشأن العام، المشاركة الشعبية، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات، قنوات التعبير والحوار، الحريات العامة، قضايا المرأة، العنف الأسري، الانتخابات، الآثار، الآخر، الخصوصية، والهوية، وغيرها كثير.. فالجو العام مهيأ، داخلياً وخارجياً، لتقبل مشروعات الدولة الإصلاحية في هذه المجالات، وعلى الدولة ألا تُفوّت هذه الفرصة التاريخية.. ولكن ذلك لن يتم إلا بقليل من البلاغية، وكثير من الهندسة الاجتماعية، والكثير الكثير من الإرادة السياسية.. الإشارات تُوحي بالتفاؤل. خلاصة لبحث شامل بعنوان: «نحو استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب»