لا زالت أوروبا باعتبارها مهد الحضارة الغربية الحديثة ومنطلقها تستأثر باهتمام العالم أجمع، وقد تبدى ذلك بشكل واضح بعد التصويت الشعبي السلبي على الدستور الأوروبي في فرنسا وهولندا بالإضافة إلى بعض مظاهر التعثر مثل خلاف الاتحاد الأوروبي مع ايطاليا لتخبط اقتصادها وكذلك بعض التباين مع بريطانيا والدول المنضوية مؤخراً تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة للعرب فإن أوروبا بحكم الجغرافيا والتاريخ كانت الأكثر تفاعلاً وتأثيراً معهم، وسميت بلدان الشرق حسب قربها من أوروبا فكنا الشرق الأدنى والشرق الأوسط، وبالإضافة إلى العوامل التي ذكرنا فإن أوروبا اليوم عنصر توازن في العالم وهي أقرب من أمريكا لنا وأقدر على تفهم قضايانا كما أن تجربة الاتحاد الأوروبي هي نموذج ومثال نصبو إليه، وكما هو معروف فقد شهد العالم في العقود الأخيرة محاولة بناء تكتلات كبرى تضم مجموعة من البلدان المتجاورة جغرافياً، لا شك أن تجربة توحيد أوروبا هي من أهم التجارب وأكثرها نضوجاً وأوسعها آفاقاً وأشدها صلابة وأبعدها عمقاً، وبكل الوعي والجدية يعتبر الأوروبيون أن العمل منذ الخمسينات على خلق إطار يمكن أن يجمع أوروبا الغربية هو الرد الطبيعي على الآلام والخسائر التي خلقتها الحرب العالمية الثانية، وكان التوجه الوحدوي الأوروبي محاولة لتأكيد خروج أوروبا من زمن الحرب والصراعات إلى زمن السلام والتوافق والتنسيق والتكامل عبر خطوات تدريجية وصولاً إلى صيغة توحيدية تجعل من أوروبا قوة كبيرة في مجال التنافس العلمي والتكنولوجي والتطور الاقتصادي لما فيه صالح شعوب أوروبا وذلك بعد حربين عالميتين شهدتهما أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي. وقد تنبهت البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية شأنها شأن كل بلدان العالم إلى أهمية ايجاد إطار يجمع أقطار الوطن العربي المستقلة آنذاك مع استمرار الحلم بالوحدة العربية لأبناء وبلدان الأمة الواحدة، وكان إنشاء الجامعة العربية في أواخر العام 1945 محاولة لجمع كلمة الدول العربية، وقد كانت جامعة الدول العربية هي المؤسسة الإقليمية الأولى التي نشأت في العالم وقد تم الإعلان عن تأسيسها بعد أشهر قليلة من الإعلان عن ولادة الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كانت أول صيغة لإعلان النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان الدور المتواضع للجامعة العربية مدركاً من قبل العرب الذين اتفقوا على الحد الأدنى باعتبار ذلك هو الممكن الوحيد آنذاك وبما لا يتعارض مع كل الجهود والمحاولات للتوصل إلى الوحدة العربية الاندماجية الكاملة أو أي شكل من أشكال الاتحاد عبر تجارب كثيرة عبر العقود الماضية لم يكتب لها النجاح، وقد نجحت الدول الإسلامية في نهاية السبعينات في ايجاد إطار يشمل دول العالم الإسلامي تحت عنوان منظمة العالم الإسلامي وقد ظلت الجامعة العربية إطاراً فضفاضاً ولم تساعد الظروف الداخلية والضغوط الدولية الخارجية واحتدام الصراعات حول المنطقة على تطوير صيغة الجامعة العربية أو منظمة العالم الإسلامي لتصبح كتلة موحدة قوية ومتماسكة. وبالإضافة إلى حالة العجز الذاتي الداخلي العربي والتآمر الخارجي، فإنه يمكن القول إن بعض التطورات والظروف الموضوعية قد أسهمت في تعميق آلام الأمة العربية وقد واجه العرب كارثة مزدوجة فقد جرى تمزيق الوطن العربي على يد الغرب بعد سقوط الدولة العثمانية كما جرى زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي وقد كان إضعاف وتفكيك العرب أبرز العوامل التي أرادها الغرب لتكون ضمانة لاستمرار إسرائيل وتطورها واعتبارها قاعدة المشروع الغربي في المنطقة. وقد كانت المقاطعة العربية لإسرائيل منذ قيام الدولة العبرية في العام 1948 هي السلاح الأقوى في يد العرب للإعلان عن رفض إقامة الكيان الصهيوني وتمدده، لكن المقاطعة العربية لم تنجح في عزل إسرائيل عزلاً تاماً في المنطقة بالرغم من كون العرب يضربون طوقاً على إسرائيل من كل الجهات ما عدا عمق البحر المتوسط، فالعرب كانوا يحاصرون الدولة العبرية منذ قيامها لكن التحالفات الغربية نجحت في اجتذاب بعض الدول الكبيرة في المنطقة لتشكل متنفساً لإسرائيل من جهة ولتمثل قوة ضاربة متحالفة مع الغرب ولتشكل طوقاً حول العرب كونها ركيزة أساسية للحلف الأطلسي والعالم الرأسمالي، وصحيح أن المهمة الأولى لدول مثل تركيا وإيران أيام الشاه وأثيوبيا أيام هيلا سلاسي كانت مواجهة للمد الشيوعي وخط دفاع أول للمعسكر الغربي، إلا أن هذه الدول كانت تشكل قوساً يحيط بالدول العربية في آسيا وفي أفريقيا لتخفيف الضغط عن إسرائيل ولتكون هناك جسور تواصل وتفاعل بين هذه الدول الكبيرة المحيطة بنا وبين إسرائيل مما يقلل من تأثير المقاطعة العربية ضد إسرائيل. وصحيح أن سقوط الشاه في إيران وسقوط نظام هيلا سلاسي قد غيّر من خارطة التحالفات في المنطقة ولكن سقوط نظام الشاه جاء بعد توقيع مصر وهي أكبر الدول العربية على اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، كما أن إسرائيل نجحت بعد سقوط النظام الأثيوبي من احراز مواقع متقدمة ومتجذرة في القارة السوداء بالإضافة إلى حفاظ إسرائيل على علاقات مميزة مع النظام اليساري في أثيوبيا. وبشكل واضح تغير الزمن الذي كانت فيه المقاطعة العربية مؤثرة ضد إسرائيل حيث كانت المقاطعة عنواناً لرفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وكانت ورقة ضغط سياسي بيد العرب الذين كانوا جادين في نظرة التحريم لأي تعامل أو علاقة مع الدولة العبرية وقد تغير ذلك الزمن الذي كانت فيه المقاطعة العربية تقابل بقوى من ثلاث دول كبيرة في آسيا وأفريقيا هي تركيا وإيران وأثيوبيا تحيط بالوطن العربي وتشكل إحدى أدوات الضغط للتخفيف من عزلة إسرائيل وتأثرها بالمقاطعة العربية. وكما نذكر جميعاً فلم يكن تعامل الدول العربية مع هذه الدول الثلاث تركيا وإيران وأثيوبيا بعد نشوء الكيان الصهيوني تعاملاً موحداً، فالدول العربية المحافظة اعتبرت الحفاظ على صلات ايجابية وجيدة مع هذه الدول الثلاث هو الوسيلة الأفضل لإبعادها عن إسرائيل وكانت هذه السياسة سياسة صحيحة بكل المقاييس حيث كان التعاون في كافة المجالات من قبل دول عربية مع هذه الدول عاملاً هاماً في التخفيف من اندفاعها باتجاه إسرائيل خاصة أن هذه الدول الثلاث لم تكن تجهر بعلاقتها مع إسرائيل لأسباب لها علاقة بالحالة الشعبية في بلدانها وخاصة الواقع الإسلامي في تركيا وإيران. وقد استعدنا طبيعة العلاقات في تلك المرحلة لنؤكد أهمية التنسيق والتعاون بين العرب والدول المجاورة وأهمية توثيق العلاقات في الإطار الإسلامي والأفريقي لأن ذلك يمكن أن يكون عاملاً ايجابياً في حال توطيد العلاقات الجيدة كما يمكن أن يكون عاملاً سلبياً إذا كان هنالك جفاء أو تضارب أو تصادم، حيث لا يخفى أن القوى الطامعة تستغل التباينات والخلافات لتنفيذ مخططاتها وهو أمر كان يقتصر على المخاوف والشكوك في الماضي، إلا أنه أصبح حقيقة تنفذ على الأرض في هذه الأيام وهذا ما يدعونا إلى إبداء الحرص على التطور الايجابي المتبادل في العلاقات بين الدول الإسلامية وبين الدول العربية وبين دول الجوار سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، وهو ما يدفعنا إلى التأمل في الايجابيات ومنها التواصل الذي حدث مؤخراً بين مصر وإيران، والتقارب الذي حدث مؤخراً بين سوريا وتركيا. ومن الملفت للنظر أن مصر الناصرية كانت تقف على يسار إيران وغير إيران بل إن النظام المصري في تلك المرحلة احتكر إطلاق التمنيات والشعارات والخطاب الإعلامي والسياسي الداعي لتحرير فلسطين، والمدعي أنه قادر على ذلك وذلك عبر التصادم مع كل دولة لا تقف مع العرب، ولم تكن هذه السياسة قاصرة على مصر لأن كل البلدان الثورية العربية آنذاك بنت أمجادها على التنديد بكل من يخالفها. أما اليوم فإن إيران تقف يسار مصر وربما على يسار الجميع بغض النظر عن درجة الجدية أو الادعاء في ذلك ولكن هذا لا يمنع تجاوز إيران الثورية لكل الاعتبارات بما في ذلك تسمية شارع في مدينة طهران، لتضع يدها في يد مصر. ولعله من المفيد التذكير بأننا نعيش في زمن جديد تعاني فيه كل دول العالم بما في ذلك الدول العظمى والتجمعات الكبرى وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي من رياح التغيير التي تعصف بالعالم لصالح برنامج الهيمنة الأمريكي وهو ما يؤكد صواب السياسات التي تتخذها دول المنطقة هذه الأيام من التفاهم وتوحيد الجهود، خاصة أن العرب والمسلمين هم أول من تستهدفهم الولاياتالمتحدةالأمريكية في مخططاتها وبرامجها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وتحت عناوين واضحة ومعلنة وهي إحداث التغيير في المنطقة.. وفي مواجهة ذلك هنالك ايجابيات وعلى سبيل المثال فإن سوريا تشعر اليوم بارتياح أكثر وباطمئنان أكثر لحدودها الشمالية مع تركيا، ولا بد أن تتبدد المخاوف السورية من تعاون عسكري إسرائيلي - تركي في المستقبل، لأن تركيا كما قال قادتها معنية في تحقيق السلام للمنطقة كقيمة إنسانية وكهدف سياسي يشكل الضمانة الوحيدة للاستقرار والتنمية والتطور. وإذا كان رئيس الوزراء التركي يقول إن صفحة الماضي قد انطوت وأن التعاون مع سوريا والدول العربية والإسلامية سيكون الركيزة الحقيقية من أجل تميز أفضل لكل دول المنطقة وضمانة أساسية للأمن والسلام الإقليمي والدولي، فإن ذلك يفرض على العرب أن يقتربوا من دول الجوار. وما هو أبعد من المصالحة والتوافق مع الحد الأدنى هو أن تنهض دول المنطقة بمسؤولية القيام بدور لخلق تكامل وتفاعل حيوي في إطار المصالح أولاً وحقائق التاريخ والانتماء للأمة الإسلامية والانطلاق من تراث وثقافة وحضارة ومفاهيم موحدة وكل هذه الاعتبارات العاطفية يفترض أن تشكل عوامل إضافية لحفز الدول الإسلامية للتعاون على الإطار، وليس من المعقول أن تنجح دول آسيوية لا يجمعها إلا الجوار في تشكيل منظمة ناجحة، ونستشهد بآسيا ابتداءً لأننا نعيش في نفس القارة ولنا مع كل بلدانها نفس الظروف أو ظروف متقاربة، وفي كل قارات العالم هنالك نجاحات لمنظمات تخلق حالة تنسيق وتواصل مؤسس على قاعدة تطوير التكامل الاقتصادي الذي يحقق مصلحة مشتركة لكل هذه البلدان. وإذا كنا أشرنا للاتحاد الأوروبي باعتباره النموذج الأنجح فلا بد أن نقرر أن ما تحقق حتى اليوم في المجال الاقتصادي يشكل وحدة اقتصادية ناجحة لا تقف في طريقها كل الخلافات والحسابات السياسية أو الطموحات القومية، فالكل مقتنع بأن الوحدة الاقتصادية هي الأساس ومع الزمن وعلى قاعدة تلاحم المصالح تتحقق كل أشكال الوحدة بما في ذلك الوحدة السياسية وفي ذلك درس وعبرة للآخرين ونحن في مقدمتهم.