في بكين عظمة تنطق، هناك على أطلال سور عظيم شيده الصينيون ليقاوموا غزاة كانوا يخشون منهم، لم يعرف أسلاف الصين ان أبناءهم سيغزون العالم ، في زمن سقطت فيه كل الأسوار من سور الصين العظيم إلى أسوار قسطنطينية وغرباً إلى برلين، وغدت بذلك أطلالاً يسلتهمون منها قدرا من الصمود. يمضي الكثير من الصينيين في واقع معاش تنتشر فيه المقاهي الغربية يحتسون فيها قهوة سوداء قادمة من خلف البحار محافظين في ذات الوقت على طقوس الشاي الأخضر يمتهنونه ويتفننون في بيعه وعرضه فهو رمز لهم ليس مجرد سلعة، له طقوسه وطرقه حتى كتبوا فيه القصائد. بالرغم من تقاليد الصينيين وتراثهم الثقافي العتيق فهم لا يتحدثون معك إلا في حقبة 2500 سنة ماضية، ترى عاصمتهم بكين النظيفة أرضاً المتلوثة جواً تعج بسيارات بدءاً من الألمانية حتى الاميركية. استوطن الغرب تقنيته في بكين فغدت مصانع أقصى الغرب تتسابق لافتتاح مصانع لها في بلد أقصى الشرق. وكأن العولمة اختزلت في بكين. مستوى التلوث يظهر باللون الغامق وقد بلغ درجات حرجة في الصين تشاهد ذلك بشكل جليّ والناس باختلاف ألسنتهم وألوانهم يصعدون درجات سور الصين يناضلون يكافحون للوصول لإحدى الأبراج متوهمين أنها القمة ويرون أن هذا البناء يعانق الأفق بطول يبلغ 1800 كم ، رأيت هناك أناساً بلغوا من العمر طويلاً يعدون تلك الدرجات التي يصعدونها قدموا من أميركا وأوروبا وأفريقيا والعالم العربي ، وكأن ذلك التجمع يونيسكو واقعية بأجندة ثقافية وإنسانية بحتة. نزولاً من على السور نحو ساحة لا تقل هيبة وحضوراً. تيانانمين أو ميدان السلام السماوي. يتوسط الميدان صورة الزعيم ماو تسي تونج يقف بجوار صورته جندي لا ينطق ببنت شفاه أو يقوم بأي حركة غير الاستدارة بين حين وحين. الصينيون جماعات وفرادى يتنقلون في جنبات هذا المكان وكأنهم لم يشاهدوه قط . في غمرة ذلك المشهد نتذكر مظاهرات قامت بها مجموعات من مفكرين وطلاب في مثل هذه الأيام سميت تلك الاحتجاجات باسم « أحداث تيانانمين». خلف سور أحمر علقت عليه صور الزعيم ماو ترقد ذكريات من زمن السلالات ، قصر بل مدينة أطلق عليها أباطرة الصين « المحرمة « حيث خبايا قصر الإمبراطور عندما تجتاز السور تبدأ معالم هذه المدينة بالظهور ، هنا غرفة الإمبراطور وهناك مكان استقبال الوفود وهنا نزل المحظيات والزوجات. وهنالك في حديقة القصر او المدينة، تجد الأشجار قد بلغت من العمر عتيّا حتى أن بعضها مصنفة كشجرة ميتة ولاتزال واقفة، حديقة مليئة بالأسرار والأبواب المقفلة. عقد زواج بين زوجين صينيين مسلمين خروجاً من المدينة المحرمة ومن جهة ميدان تيانانمين يقابلك لوحة كتب عليها « المطعم الإسلامي « - «حلال». كلمة تجد طريقها في سوق الصين حيث أصبح الحضور العربي والإسلامي صارخاً بشكل كبير والفضل في ذلك للاقتصاد حيث 200 مليار دولار حجم التجارة بين الصين والدول العربية ، وهو رقم تاريخي ومهم ، إذا علمنا أن حجم التجارة في عام 2004 كانت فقط 36 مليار دولار أميركي. لكن الصينيين الذين طالما عاشوا طالبين للعزلة حتى أوقات متأخرة من الزمن، لدرجة أنهم دخلوا في حرب ليحققوا عزلتهم، لكنهم لم ينتصروا فيها وهي «حرب الأفيون». قادوا حملة عام 1978 بقيادة دينج شايو بينج سميت عصر الانفتاح على العالم الخارجي ، ولم يكتفوا الآن بالجانب الاقتصادي للدخول في السوق العربية بل أدركوا أهمية الجانب الإعلامي للوصول للعرب في منازلهم فأنشأوا قناة الصين العربية وشمل ذلك التعريب مجلات وصحف. في أحد ضواحي بكين يقف رجلان عسكريان على بوابة كتب عليها التلفزيون المركزي الصيني ، المبنى القديم الذي يستعد العاملون فيه للانتقال لمبنى آخر سيكون أحد معالم المدينة ، المبنى الضخم الذي وجدته يعج بالناس هو أشبه بالمتاهه حيث استوديوهات كثيرة وضيوف في غرف الانتظار والمذيعون والمذيعات الذين يخضعون للمسات المكياج استعداداً للخروج على الهواء. كان في الاستقبال الخبير سو رجل كبير في السن يتقن العربية بدأ في العمل مع التلفزيون العربي منذ عام 2009 . يحرص القائمون على هذا الجهاز الإعلامي على البرامج أكثر من الاعتماد على الجانب الإخباري ، وجدت هنالك مذيعين عربا تلقوا تعليمهم في الصين من مختلف الاقطار العربية من الأردن والبحرين ومصر. قادنا أحد القائمين على التلفزيون الصيني العربي إلى غرفة تحرير الأخبار العربية. استقبلتنا سيدة محجبة لم يتسنَ لي التعرف عليها تجولت في الغرفة قواميس لغة صينية - عربية متخصصة سياسية و اقتصادية على الطاولات، أكواب الشاي والمشروبات العشبية على كل طاولة. الإعلام في الصين إعلام حكومي بحت لا يمكن أن نحمله ما لا طاقة له فيه فهو يسير عبر أجندة معينة ، لذا هرب من مواجهة الخبر وتداعياته وتحليلاته وقلص مساحته إلى البرامج المنوعة ، فمتابعة الخبر وعرض وجهات النظر أمر ربما ترى بكين انه حساس خصوصاً إذا تعارض مع سياساتها. وبالرغم من ذلك لم تركن التلفزة الرسمية إلى هذا وتستسلم بل حاولت التطور والتوسع فهي تنوي الدخول إلى السوق العربية وافتتاح مركز رئيسي لها في الأردن تدير من خلاله شبكتها الإعلامية في المنطقة العربية المليئة بالأحداث والفعاليات. كما أن حضور الوسائل الإعلامية الصينية في المنطقة هو جزء من تواجد الصين دولياً يستوجب ان يليق بمكانتها وحضورها العالمي ، لاسيما في أهم منطقة في العالم وهي منطقة الشرق الأوسط .لكن يظل شيئاً من التباس والحرية تصيبك عندما تكتب كلمة «فيس بوك» او «يوتيوب» في المتصفح وتكتشف ان هذه المواقع محجوبة ، يبدو أن هنالك حساسية من هذه المواقع. لا يمكن قصر الانفتاح الذي قامت به الصين وحصره في الاقتصاد كعنصر هام ورئيسي تقوم عليه الدولة ويعد أحد اركانها ، لكن الانفتاح قاد إلى ابعاد كثيرة ومتعددة ومنها الانفتاح الديني. تعرضت الممارسات الدينية للصين في الماضي لشيء من القمع والإقصاء الشديدين وخصوصا في فترة «الثورة الثقافية». وعاد الدين ليصبح جزءا من اهتمام الصينيين فبعض المعالم الدينية الموجودة في بكين تعود للزمن الامبراطوري مثل مسجد « نيوجيه « الذي يعود تاريخه لعام 996 م ، وقد شيد في زمن أسرة مينغ ، وهو لا يختلف في شكله عن الطراز الصيني القديم ، على مشرفة من المسجد ترى واجهات المحلات ، وقد اقتبست من العربية كلمات ذات طابع ديني ، بعض الملابس الاسلامية هنا وهناك. المسلمون في الصين هم قلة حيث تبلغ نسبتهم 1.4 % من مجموع السكان . لكن يبدو في وجوه من قابلونا من المسلمين المسؤولين عن المسجد او في الجمعية الاسلامية الراحة. لا يمكن الحكم على الاوضاع في زيارة تستغرق ساعات لكن لا يخفى على الجميع الاحداث العرقية التي مر بها اقليم اورومشي قبل عدة سنوات ، على أبواب الجمعية آية من القرآن « واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا». الصينيون بالمجمل ليس لديهم ذلك الفرز على حسب الدين وذلك وفق ما استنتجت خلال لقائي فلا مانع من الالتحاق بالجيش او الجهاز الامني أو حتى تاريخياً لم يكن هناك اضطهادٌ ديني حتى عندما اراد البعض الصاق تهمة الانفصالية لمجموعة مسلمة في زمن الامبراطورية عندما رأوا المسلمين يتجمعون في ليالي رمضان وأدرك فيما بعد الامبراطور غاية التجمع وهي التعبد أصدر التالي»: ليكن في علم جميع المقاطعات انه: اذا افترى أحد الموظفين أو الرعايا على المسلمين بالتمرد، متذرعا بذريعة تافهة، فلا بد من معاقبته معاقبة شديدة قبل استشارة القيادة العليا. وليتمسك المسلمون بالإسلام دون السماح لهم بمخالفة أمري هذا «. كما أن المسلمين موجودون في الاجهزة الحكومية والشركات، ولكنهم ليسوا كثرة نظراً لقلتهم في المكون الاجتماعي الصيني في الاصل . تمكنا من زيارة مجمع سكاني قريب من مسجد نيوجيه حيث قابلت إبراهيم وزوجته مريم اللذين يقطنان في شقة في احد الابراج السكنية ويتضح ان ساكني هذا المبنى من المسلمين حيث لاحظت وجود بعض العبارات الدينية على أبواب شقق الساكنين . ابراهيم الذي يقول انه من اصول عربية جاءت من 400 سنة إلى الصين وهو من الجيل الرابع عشر في عائلته، هو وزوجته متقاعدان يتقاضى الزوج 3000 يوان، بيته الصغير مكون من غرفتين ومطبخ وحمام وصالة صغيرة مطلة على المسجد ، الأمر الذي يمكنه من صلاة الفروض الخمسة في المسجد كما يقول. تعاني العاصمة الصينية ضغوطاً هائلة تطرح أسئلة من نوع هل تتحمل بكين ثلاثة ملايين سيارة تجوب شوارعها مع ازدياد هذه المركبات التي سعت حكومة بكين المركزية إلى إصدار قوانين للحد من نزولها للشوارع فحدِّدت أيام معينة يمنع فيها سير السيارات التي يكون نهاية رقم لوحتها رقماً معينا ، للحد من الازدحام والتلوث الذي بلغ أرقاماً خطرة وتناضل الصين بشكل كامل للحد من ذلك وبالفعل حققت نجاحات في التخفيف من التلوث. إلى سياسة الطفل الواحد التي تجدها في المدن تتحقق أكثر من الأرياف على حد قول الصينيين ، وتمضي الصين في تنفيذ هذه السياسة وإن أصبح المجتمع الصيني بالمقياس العالمي مجتمعا «شيخوخي» أي أن معظم سكانه من كبار السن فمتوسط الأعمار 73 سنة مع احتمال ان يصل إلى 75 سنة عام 2015 إلا أن القاعدة العامة للسكان تظل ضخمة.