المؤلف: نايف بن بندر السديري مكان الإصدار وتاريخه: الرياض، 7 المحرم 1426ه عرض السفير الدكتور عبدالرحمن بن محمد الجديع شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية تزايداً في انتشار الكتب التي تعنى بالسير الذاتية. وتنبع أهمية هذه الظاهرة من حقيقة أن هذه الكتب تحمل بين طياتها كثيراً من المعلومات، وتسوق حقائق تاريخية لم تكن تعرف لولا نشرها، كما تعكس مواقف شخصية ووقائع نفسية تعرض لها الكاتب شخصياً مما يعطي هذه السير بعداً إضافياً يثري الحقل الأدبي أو السياسي أو الاجتماعي الذي تهتم به. ويتميز هذا النوع من الأدبيات بالدقة والتفاصيل الروائية وتستمد قوتها من كون الكاتب شاهد عيان على الأحداث التاريخية في جيله ومن متابعته للأحداث المحلية والإقليمية والدولية وبالتالي فهي تحوي مخزونا مهماً من المعلومات القيمة. وقد قام كثير من رؤساء الدول والمفكرين والشخصيات العامة في المجتمعات وخصوصاً الغربية بالاهتمام في هذا النوع من التراث الفكري حيث دونوا سير حياتهم والأحداث والظروف التي عايشوها في مثل هذه المؤلفات. ومما لا ريب فيه، أن هذه الكتب ذات دلالة بالغة في توضيح مجريات الأمور وبواطنها وتفسر بعضاً من المواقف التاريخية التي اتخذت في حقبة زمنية معنية على أكثر من صعيد. يأتي كتاب «موزاييك الذاكرة» للكاتب الأمير نايف السديري عن والده -رحمه الله- الأمير بندر السديري بمثابة إضاءات فكرية هامة على سيرة هذا الإنسان الكامل خلقاً وأدباً، وقد عكست محتويات هذا الكتاب محطات تاريخية مهمة في مراحل بناء المملكة وتوحيدها على يد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- ورجاله. وقد أبرز هذا المؤلف مواقف بطولية سجلها التاريخ لشهوده بالرغم من الظروف الصعبة وقلة الموارد وصعوبة المواصلات. يتكون الكتاب من مقدمة وثمانية فصول وملحق خاص ببعض القصائد للأمير بندر السديري. وجاء في المقدمة أن منطلق هذا الكتاب كان وصية والده، والرغبة القوية في التدليل على العرفان الكبير لمسيرة هذا الرجل عبر لمسة وفاء من قبل ابنه ونشر سيرته كي تستفيد منها الأجيال المقبلة بأمل أن تكون جسراً للتواصل الذي يربط بين تجاربهم الحياتية وتراثهم الثقافي من خلال توضيح جهود القوى والشخصيات الفاعلة بمجتمعهم. وقد أكد في هذا الفصل على أهمية صيانة الهوية الثقافية لكل دولة. فالدول تسخر عادة إمكاناتها وطاقاتها كافة في مختلف الميادين للحفاظ على هويتها، تراثها ومقدراتها، وإذا كان هذا شأن الدول الكبرى والمتقدمة فمن باب أولى ينسحب ذلك إلى الأمم الناشئة مثل المملكة العربية السعودية إذ إن ذلك «مرآة لوجهها المشرق». وتبرز هذه المقدمة أيضا نفحة أدبية واضحة تدل على قدرة الكاتب وتمكنه اللغوي رغم مسحة الألم التي اتسم أسلوب الكاتب جراء فراق أبيه، هذه الشخصية الاجتماعية اللامعة. أما الفصل الأول فيتطرق إلى عادات المجتمع النجدي في تلك الحقبة الزمنية التي تكرس مفهوم الأسرة وتماسكها لا سيما في المواقف التي تستدعي المساندة كالزفاف وغيرها من المناسبات الاجتماعية الأخرى. ويلاحظ أن هذه التقاليد عكست الاهتمام البالغ بالمرأة ومكانتها لدى ذويها والحرص على العناية بها وبشئونها بصرف النظر عن إمكانات الزوج وقدارته. ولد الأمير بندر السديري بقرية العمار جنوب بلدة الغاط المقر الرئيس لأسرة آل السديري العريقة. وقد عكس هذا الفصل المراحل التي عايشها الأمير في حياته والظروف والمعاناة التي مرت بها أسرته وأبناء جيله من المواطنين السعوديين إبانها نتيجة الأمراض والأوضاع الاقتصادية شديدة القسوة. ويعرض الفصل الثاني، تفاصيل رحلته الأولى للرياض ومن ثم الإقامة بها. وقد تزامن انتقاله من الغاط -القرية التي تتسم بالهدوء والصفاء والمزارع الخضراء، إلى الرياض بدء مرحلة صعبة بعد هبوب رياح الحرب العالمية الثانية وتأثيرها المدمر والسلبي على دول العالم كافة ومنها المملكة وخصوصا في المجال الاقتصادي. فقد تضاءل إنتاجها من النفط رغم كونه في مرحلة البداية كما تقلص لحد كبير عدد الحجاج القادمين لزيارة المشاعر المقدسة. رغم ذلك، فإن أهم ما يميز هذه المرحلة من حياة الأمير بندر هو تعرفه عن كثب على الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، الذي أسبغ عليه العطف، والعناية التي طالما عرف بها الملك عبدالعزيز. لقد أثرت المقابلة الأولى في حي «المربع» مع الملك عبدالعزيز على روح الأمير ونفسيته فظل يتذكرها حتى آخر حياته. كما أتاحت له إقامته في الرياض الاتصال بأصحاب السمو الملكي الأمراء أمثال الأمراء سلطان وسلمان وتركي ونايف وأحمد وأبنائهم الذين كانت لمساتهم الإنسانية وتعاملهم مع الآخرين سواء من ذوي القربى أو المواطنين الآخرين مثالاً يحتذى في الرعاية والاحترام. إما الفصل الثالث، فقد ركز على تجربة الأمير بندر في دراسته مطلع الخمسينيات في لبنان، هذا البلد الذي يعد معقلاً للثقافة والفكر العربي ومنارة حضارية للشرق، حيث التحق بالجامعة الأمريكية في منطقة رأس بيروت، وتطرق إلى ما حققه من مكتسبات على الصعيد الشخصي من حيث نهل المعرفة والتعرف على أنماط أخرى من العادات والتقاليد اللبنانية وغير اللبنانية من خلال احتكاكه بالطلاب الأجانب في الجامعة. كذلك، كانت هذه الفترة فترة إثراء فكري وثقافي بالنسبة له خصوصاً وهو لا يزال يافعاً ومرتبطا بقوة في بلده الأم. واستطاع أن يكون علاقات كبيرة مع زملائه وترسيخ علاقات مهمة وبنائها مع اللبنانيين وغيرهم، وكان محط تقدير وترحيب اللبنانيين المعروفين برحابة الصدر وإكرام الغريب، وقد شغف الأمير بهذا البلد العربي وتجول في مدنه وقراه وضيعاته واطلع على عمق حضارته وجماله الطبيعي الأخاذ. وأشار الفصل الرابع إلى التغير الذي لمس شخصية ا لأمير ودلل على انفتاحه الفكري بعد أن أصبح مولعاً بقراءة الكتب والمجلات وتعززت رغبته في المزيد من المعرفة والاطلاع. لذا، ترك بيروت التي لم يستكمل الدراسة بها وتوجه للقاهرة، القلعة الثقافية العربية الأخرى حيث اطلع على الكثير من الأفكار والأيديولوجيات التي كانت تزخر بها، وتزامن كل ذلك مع بروز الرئيس جمال عبدالناصر والقوميين العرب، وحرب السويس التي رأى فيها الأمير منذ البداية أنها نذير شؤم بالانحطاط وبداية النكسات والهزائم التي ألمت بالعالم العربي. وتناول الفصل الخامس عودة الأمير إلى الرياض وعزمة على الاستقرار بعد رحلة للقاهرة. فبعد إقامة اطلع إبنانها على أهم الأحداث التاريخية والمراحل التي شهدتها المنطقة والمواقف والتفاعلات الدولية سواء على صعيد مصر وثروتها وحرب السويس، أم على صعيد الصراعات بين الشرق والغرب، أو بروز العالم الثالث ممثلاً بدول عدم الانحياز بعد مؤتمر باندونغ الذي كان عبدالناصر فيه قطباً ولاعباً رئيساً. أما الفصل السادس فقد خصص إلى مشواره في ميادين التجارة والاستثمار وبداية مؤسسة الجزيزة. لقد كان الأمير في تعاملاته التجارية يحرص على البعد الإنساني أولاً وهو ما ميزه على كثير وكثير من أصحاب المال والتجارة. في الفصل السابع تناول الكاتب مأساة مرض والد الأمير ومدى شعور الكاتب وتعلقه بأبيه سواء من حيث مصاحبته له في سفرات مرضه المتكرر للعلاج أو وجوده في المملكة وملازمته. كما أوضح مدى تحمل والده الأخبار السيئة التي نقلت إليه جراء إصابته بالمرض الخبيث لأن هذا أمر ليس بمستغرب من رجال أمثال الأمير بندر السديري والمؤمنين بالقضاء والقدر. فقد كان من جيل عرف بقدرته على تحمل الصعاب والتوكل على الله. أما الفصل الثامن من الكتاب فقد تضمن الخاتمة التي اشتملت على بعض القصائد للأمير التي عكست روعة الخيال وجمال الصورة. فهي وإن كانت باللغة المحلية أو العامية إلا أنها مفعمة بعمق الفلسفة وسعة الأفق وجمال الصور والألوان. ولعلي في هذا المقام اقترح بأن يفرد ديوان شعري خاص لما لذلك من أهمية بالغة خصوصاً وأن اللغة العامية تخاطب بصدق غالبية طبقات مجتمعنا الذواق. مع أن هذا الكتاب يمثل سيرة رائعة للراحل الأمير بندر السديري وجهد يشكر عليه ابنه الأمير نايف البار بوالده والعامل وفق رغبته ووصيته، إلا أن هذا الجهد وبحق قد أيقظ لدي ذكريات جمعتني بالأمير الراحل حيث كانت لقاءاتنا امتداداً لتقليد تجسد منذ عهد والدي رحمه الله، مع هذه العائلة الكريمة. لقد أسهمت هذه الصفوة في ترسيخ دعائم هذا البلد في ظل القيادة الحكيمة منذ عهد المؤسس الراحل وصولاً إلى أبنائه البررة، وفي هذا المقام أود أن اشير إلى أنه سبق وطالبت بتدوين سجل هذه العائلة الكريمة وإبراز دورها المميز في المساهمة في تثبيت دعائم الأمن وفقاً لرؤية حكومتنا في الظروف الصعبة. لقد عرفت الأمير بندر، وعرفت فيه سماحة النفس وطيب المعشر والرقي بحسن التعامل. كما عرفت فيه سعة الاطلاع وغنى المخزون الفكري والحب الشديد للثقافة والشغف بالأدب والشعر. فحسه الشعري مرهف وموهبته الفنية مبدعة وخلاقة. لقد كان لديه - رحمه الله - قدرة فائقة على إزالة ما يفصل بينه وبين من يتعامل معه، فقد كان إنساناً يرى أن هذه الحياة تنبض وتتحقق في الآخر ومع الآخر وبالآخر، ولذا رأى ذاته في نفوس الآخرين وحرص على احترامهم وتقديرهم وعدم إلغائهم. لم أر الأمير الراحل إلا مبتسماً، حليماً، باسطاً الكف لا يعرف كدر الذات أبداً. كانت شيمته التواضع ورقة التعامل، وكرس حياته للعمل الجاد وخدمة المحتاجين والفقراء. بصمت منحهم الحب، وبهدوء واساهم. ولم لا وقد كان نبعاً للعطاء ومثالاً رائعاً على السخاء. يكمن جوهر هذا المؤلف في إبراز كبر شخصية هذا الأمير الإنسان وتميزها. وهو إن غاب فإن أعماله الخيرة باقية في سجل التاريخ لن تغيب.