من مبتدأ الكلام للنحيل الباذخ النحافة، صاحب الصمت الجليل، العالم الذي يمشي فى الظل، ويؤثر سلامة الروح، الذي أمضى عمره بين المتون والمخطوطات، ومحبرة الحبر، والأوراق الصفر، مشرعا أسئلته العصية، يواجه بها الماضي الذي يجره من سلسلته الذهبية يحضره إلى هنا ليجسده نسقا جديدا، وفريدا في ثقافة العرب، وحين يكون الإنشاء متاهة للتأويل، ومعرفة لمعنى المرآة، والارتياب القلق طريقة للبحث، لاختبار العلم، الذي يبدأ من المخطوط القديم، حيث يزيح غبار السنين والركنة وسط الأضابير، ثم يتعمق آخر الأمر معناه، خارجا به من ظلام القرون، للحظة الميلاد.. للمغربي الخجول المتوحد كتبه التي تشهد عليه شهادة حق، وترد غيبته وسط ثقافة مأزومة: الكتابة والتناسخ، الحكاية والتأويل، الأدب والغرابة، لسان آدم، الغائب، العين والابرة، الأدب والارتياب، حصان نيتشه، المقامات، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، من شرفة ابن رشد، وأخيرا روايته الوحيدة: أنبئوني بالرؤيا. في دراسة عن "بورخيس" لإبراهيم الخطيب يكتب: في ركن ما من "مكتبة بابل" هناك شاعر يتأمل العالم بعمق وسعادة: أنه لا يبصره البتة، لكنه يدرك أن الكتب هي التي تفعل ذلك وأن من واجبه هو فقط إعادة الحياة إلى الكلمات الخاملة عن طريق كتابتها من جديد. هل ما صنعه العازف عن الراهن الثقافي والسياسي هو إعادة الحياة لتراثنا، وأنشأ وحده جدلية غياب التراث وحضوره!!. له الفضل "عبدالفتاح كيليطو" أن نبهنا إلى تراث آخر أعاد خلقه وحمله أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ثم نبهنا – نحن الغافلين – إلى القيمة الاستثنائية لحضور هذا الماضي في الحاضر. يقولون: يكتب كل كاتب ما كتبه الآخرون ولكن بشكل آخر، لا جديد فى الكتابة: الجديد هو الكاتب. هل "عبدالفتاح كيليطو" هو الجديد الخالص على ثقافتنا العربية؟ هل عمله على التراث، شرحا، وتأويلا، وقراءة، وكشفا لما فيه من اسرار وبلاغه وحكايا سرية وسحرية أحد منجزه العظيم؟ ربما نظر من مرآته على ذلك العالم الساكن في غفوة الزمن فأيقظ فيه الروح، لأنه أصغى جيدا إلى تلك الأصوات التي تهمس في ظلام خزانات الكتب، وفى أروقة دار الكتب القديمة. يقولون: هو الذي عرف الكتاب السحري، والكتاب الغريق، والكتاب القاتل، والكتاب المحرم، والكتاب الملعون، والكتاب المسموم، كما ذكر خالد بلقاسم، وهو من انشغل أيضا بحقائق الوجود، وسؤال الأبد، وجدلية الحياة والموت، والبعث والقيامة، والصمت والعويل، وبألف ليلة وليلة التي يعتبرها كتاب الكتب. عند توجه الفتى لأستاذ اللغة الفرنسية ليسأله: هل ينبغي عند قراءة كتاب "رواية" استذكار اسم المؤلف، فضلا عن الحكاية؟ يجيبه الأستاذ، لكن بعد سنوات مضت وكان قد حكي الحكاية لأصدقائه، الآن يسألونه: ماذا كان جواب أستاذ اللغة الفرنسية، لكن الجواب كان قد غاب عن ذاكرة الفتى، ومن يومها وهو يبحث عن الجواب في مكان آخر.. عند شعراء الثقافة العربية الكلاسيكية ونقادها هذا الجواب الجديد، الذي لا يخلو من حيرة وتعقيد. هل كان الفتى هو "عبدالفتاح كيليطو" نفسه؟ ذلك الذي أخذ على نفسه إيقاظ الكتب من مناماتها، وساءلها: هل هو الذي يقرأها أم الكتب هي التي تقرأه؟ يبذل الرجل جهده في صبر وأناة، ويواصل قراءاته في تراث أمته مقتحما باسئلته الماضي والحاضر ليغني المتخيل العربي بما أنصت له من نصوص وما حاوره من كتب عبر سنين عمره، داخلا من بابها، باحثا عن مأوي لروحه. في صدفة: خير من ألف ميعاد، وكنا نحن الوفد المصري مدعوين بجامعة الملك محمد الخامس بالرباط في ملتقى عن الرواية العربية، وكان "عبدالفتاح كيليطو" ممن سيشاركون بورقة عن: لماذا لم يعرف العرب فن الرواية وعرفوا فن الشعر، وحين اقتربنا، اقتربت أنا كثيرا من ذلك التواضع، وتأملت وجهة الأسمر، بعد اللقاء مشينا في ردهة واسعة تزدحم بحفنات من المثقفين، يتزاحمون تحت الضوء في انتظار مراياهم، تقدمت ناحيته مقدمة برامج من التليفزيون المغربي وطلبت منه مقابلة، صمت متأملا بعينة القلق آلة التصوير ثم أشار بأصبعه ناحيتها وقال: ياسيدتي أنا لو وقفت أمام هذا الشيء فلسوف يغمى علي، ومضى، وفيما أتذكر قول قائل: باحثا عن خريطة النسق المفقودة في ظلمة التراث العربي القديم، وتفكيكا لطواحين متونة بفكر معاصر عليه سلام الله.