كثيرةٌ هي الأبحاث المهمة التي وضعها الباحث المغربي بالفرنسية عبدالفتاح كيليطو حول كتاب «ألف ليلة وليلة». لكن معرفته العميقة بهذا العمل الفذّ، وبالأدب العربي الكلاسيكي عموماً، لا تفسّر وحدها المهارات الكثيرة التي تتجلى في صوغ كتابه الأخير، «قُولوا لي الحلم»، الصادر حديثاً لدى دار «أكت سود» الباريسية. فعلى خلاف معظم كتبه السابقة التي تندرج في ميدان النقد الأدبي وتتحلى بطرافةٍ كبيرة في الأسلوب وطريقة المعالجة، حبك كيليطو نصّه الأخير في شكلٍ يستحيل تصنيفه لاختلاط الواقع بالخيال فيه، والذكريات بالأحلام والتأمّلات، على خلفية بحثه الثابت وعلاقته الحميمة والطويلة بكتاب «ألف ليلة وليلة». وفعلاً، لا يمكن اعتبار هذا العمل الذي يقع في نحو مئة صفحة ويتضمن أربعة فصول مجرّد بحثٍ آخر لكيليطو، على رغم جانبه العلمي والتحليلي الكبير وتوفيره معطياتٍ وفرضياتٍ جديدة ومثيرة حول أشهر كتابٍ عربي، كما لا يمكن تحديده فقط كروايةٍ، أو كمجموعة قصص، تتألف من عناصر خيالية وأخرى علمية وأخرى مستقاة من سيرته الذاتية، على رغم الأسلوب السردي الروائي، أو القصصي، المعتمد فيه، أو أيضاً كدفتر سفرٍ أو مذكّرات، مع أن ثمّة عناصر وأحداثاً مسرودة فيه تبرّر هذا الوصف. والسبب هو أن هذا العمل ينتمي إلى كل الأنواع الكتابية المذكورة، وفي الوقت ذاته لا ينتمي إلى أيّ منها. اختبارٌ كتابي جديد إذاً على مستوى الشكل والمضمون. من هنا أهميته. في الفصل الأول، يروي كيليطو قصة اكتشافه كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو طفل مريض، ثم قصة سفره إلى الولاياتالمتحدة وهو شاب تلبيةً لدعوةٍ تلقّاها على أثر مقالةٍ طويلة كتبها حول هذا الكتاب، سفرٌ يصفه على النحو الآتي: «وصلتُ بمتاعي الشرقي مثل سندباد، رجل القطيعة الذي عليه أن يبدأ كل شيءٍ من جديد وأن يعيد ابتكار نفسه والعالم. وحين يعود إلى دياره، يكون محمّلاً بثرواتٍ جديدة اكتسبها بفضل جهده الخاص». ولا مبالغة في هذا الوصف لأن كيليطو، وإن لم تحظ محاضرتَاه بجمهورٍ كبير وشغوف، سيعثر في مكتبة للكتب القديمة على الطبعة الأولى من ترجمة ريشارد بورتون لكتاب «ألف ليلة وليلة»، وعلى مخطوطٍ عربي قديم داخلها يتضمن حكاية مجهولة من هذا الكتاب بعنوان «الأمير نور الدين والحصان». وهي مناسبة يستغلّها الكاتب لسرد هذه الحكاية علينا والإشارة إلى الموضوعات والعناصر التي تربطها بحكايات شهرزاد، وأوّلها مسألة الفضول المحرَّم الذي كان اختاره كموضوع لمحاضرتَيه! بل سيلتقي كيليطو في منزل الأستاذ الذي استضافه بفتاةٍ جميلة تدعى إيدا يُفتن بها فوراً ولا تُعيره أي اهتمام. ولعل هذا ما دفع الأستاذ في مناسبةٍ أخرى إلى قراءة «لامية العرب» له وهي للشاعر الشنفرى ورباعية عربية شهيرة تدعو مَن يحب امرأة إلى عدم السعي وراءها أو محاولة رؤيتها، بل إلى البقاء في الدار لأنها ستحضر يوماً بالتأكيد وتطرق الباب... في الفصل الثاني، نعود إلى المغرب لنتعرّف على قصة طالب جامعي لامع يدعى إسماعيل كملو حضّر أطروحة حول خاتمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تحت إشراف كيليطو، قلب فيها بلا رويّة، الأسلوب المعهود للعمل الجامعي، وذلك في الفترة التي كان كيليطو أصدر بحثه حول النوم، أو ليالي الأرق، في حكايات شهرزاد، ودخل في حالة اكتئابٍ تثبّت مقولةً أشار إليها في هذا البحث ومفادها أن هذه الحكايات يمكن أن تشكّل مصدر خطر أو ضرر لمَن يقرأها أو يصغي إليها حتى النهاية. ووفقاً لكملو الذي تقودنا إشاراتٍ كثيرة إلى الاعتقاد بأنه شخصية خيالية يقف كيليطو نفسه خلفها، يتوافق غياب الخاتمة في الحكاية - الإطار لكتاب «ألف ليلة وليلة» مع منطق هذا الكتاب الذي قدره أن يكبر ويتخصّب باستمرار بحكاياتٍ جديدة. لكن القرّاء والمستمعين هم الذين لم يتحمّلوا غياب الخاتمة وأصرّوا عليها، فكانت خاتمات مختلفة بعدد النُسخ الموجودة من هذا الكتاب. وبما أن تعدّد الخاتمات يشير إلى ضياع الخاتمة الحقيقية أو طمسها، اضطلع كملو بمهمة صوغها من جديد وقدّمها على شكل أطروحة دكتوراه فريدة من نوعها. ويتوقف كيليطو بالتفصيل عند أجزائها الثلاثة، قبل أن يشير إلى إهداء كملو هذه الأطروحة، لدى نشرها، الى فتاةٍ تدعى إيدا...! في الفصل الثالث من الكتاب، يعود كيليطو إلى الفترة التي سبقت سفره وهو شاب إلى أميركا، وهي فترة يقول أنه سكن خلالها في إستوديو صغير (في فرنسا؟) ترك ساكنه السابق فيه كتاب رحلات ابن بطوطة ومقالات كثيرة مصوّرة، بينها مقالة لإسماعيل كملو حول حكاية مجهولة من كتاب «ألف ليلة وليلة»: «نور الدين والحصان»، يشير فيها إلى أنه عثر على مخطوطها في ترجمة بورتون، كما يستشهد فيها أيضاً بالرباعية المذكورة أعلاه. والمثير في هذا الفصل هو تخيّل كيليطو قصة حبٍ جميلة بين جارته، آدا، التي لن تلتفت إليه أيضاً، وساكن الأستوديو السابق، قصةٌ تشبه حكاية الصيني (في كتاب «ألف ليلة وليلة»؟) الذي رحل بعدما انتظر ثلاث سنوات قرب نافذة الحبيبة، وفقاً لإرادتها، من دون أن يطلب مكافأته، قصةٌ تأتي فيها آدا لتطرق باب هذا الشخص، بعد طول انتظار، مبيّنةً أن صاحب الرباعية المذكورة كان على حق! أما في الفصل الرابع والأخير فينتقل كيليطو إلى الفترة التي كان يحضّر خلالها أطروحة الدكتوراه في المغرب حول كتاب «ألف ليلة وليلة»، ليروي قصّة (خيالية؟) مع صديقٍ يدعى عمر لوبارو لم يتردد في الافتراء عليه، بعدما نشر كيليطو ديوانه الشعري الأول باسمه، وفي الترويج لإشاعةٍ مفادها أن كيليطو هو الذي يعاني من حالة تعلّق (fixation) مرضية به، ويحاول سرقة إنجازاته الشعرية. وبواسطة هذا «الصديق»، تعرّف كيليطو الى فتاة تدعى عايدة فتنته وتجاهلته كلياً، كسابقاتها، قبل أن تقبل به وترغب فيه بعد ضربٍ آخر من لوبارو، عرف كيليطو كيف يجيّره لمصلحته... قيمة هذا الكتاب لا تكمن فقط في مهارة صاحبه الكبيرة في حبك عناصر واقعية وعلمية بأخرى خيالية وتحويلها مادة روائية أو سردية بامتياز، ولا في طريقة شبكه أحداث فصول هذا الكتاب الأربعة التي تذكّرنا بتقنية التركيب (enchâssement) المستخدمة في حكايات «ألف ليلة وليلة»، وذلك من خلال عناصر أو شخصيات أو مواضيع يتكرر حضورها في كل فصل: الفتيات اللواتي يتشاركن الاسم نفسه والموقف السلبي نفسه من كيليطو، الرباعية التي يتردّد صداها في الفصول الأربعة بطريقةٍ سحرية جميلة، مخطوط الحكاية المجهولة، إسماعيل كملو الذي يتحوّل من طالب إلى زميل وتختلط إنجازاته بإنجازات كيليطو... بل تكمن أيضاً وخصوصاً في تشكيل هذا الكتاب مُربِكة حقيقية لا تكتمل أجزاؤها ومعالمها حتى بلوغ الصفحة الأخيرة فيه، مُربكة تحمل رسائل وعِبَراً متعددة تربط فصول الكتاب ببعضها بعضاً ونترك للقارئ متعة اكتشافها.