القادة.. الزعماء.. رجال الواجهة.. دائماً يُحاطون بسياج ابتعاد عن عامة الناس.. حتى إذا خرجوا في مرات نادرة عن إطار ذلك السياج فإن الأمر لا يحدث إلا لظروف خاصة، أو لأداء مشهد تمثيلي يُقصد به غاية أخرى.. كل مَنْ هم في هذه الصدارة لهم مثل هذا الابتعاد عن العامة.. قد يكون الغربيون أكثر موضوعية في اتساع نوعية السياج، أما قادة العالم الثالث فهم الأكثر بعداً عن عناصر الرأي العام.. وعالمنا العربي في خصوصية أكثر.. كيف كان عبدالله بن عبدالعزيز.. قبل أن يصل إلى ولاية العهد وبعد أن أصبح خادم الحرمين؟.. أجزم أن حياته الشخصية وعلاقاته العامة.. وليست الخاصة.. هي لانفراد نوعية ممارستها تستحق أن تكون موضوع دراسة خاصة تعطي للمتابع كيف هي جزالة الاختلاف سلوكاً وتعاملاً وعلاقات، تعطيه لا بالأقوال لكن بوثائق نوعية الحياة الاجتماعية والأسرية لرجل جمع بين مساحتين متابعدتين.. قائد فريد الاهتمامات والأفكار ويقوم بإقرار تنفيذ مشاريع هائلة في التنوع الاقتصادي والعلمي والتقني وردع التطرف وإشاعة عدالة موضوعية العضوية الاجتماعية للمرأة والرجل.. ممارسة مسؤوليات.. وأحقية حضور شخصي.. هذا القائد تفترض بداهة أنه سيكون معذوراً لو عزلته هذه المسؤوليات التي لم تحدث في دولة من العالم الثالث عن أوساط مجتمعه، وسيكون الناس يتحدثون عاذرين ومقدرين أن ما يقوم به من منجزات سبب وجيه ومنطقي في عدم قدرته أن يكون له تعدّد مستويات في علاقاته الاجتماعية.. لكن ما حدث هو العكس.. رجل رائع الوجود مع مشاريع أفكاره.. أي احتياجات مواطنيه في قرارات التطور المتعدد الأهميات، لكنه يتمتع ببساطة تناول لتعدد صلاته وعلاقاته الاجتماعية.. بحيث يبدو في حقيقة أنه يأخذ المجتمع معه عبر كل علاقات مناسبات وجوده بين جماهيره كما لو كان زميلاً لطالب جامعي أو زميلاً لموظف إداري.. وبساطته لم تكن مسؤولية اجتماعية أضافها إلى مسؤوليات كفاءاته القيادية، فمَنْ يعرف الملك عبدالله بن عبدالعزيز قبل أن يصبح ولياً للعهد بسنوات لا تقل عن العشر أو العشرين، ثم حين أصبح ملكاً سيجد أن الرجل العظيم كان يتمتع ببساطة تقارب اجتماعي وبموضوعية احترام لمَنْ يتحدث معه حتى ولو كان يختلف معه في رأي.. أذكر قبل أن يصبح ولياً للعهد، ربما بعشر سنوات حدث أن كان يدعونا - رؤساء التحرير - للاشتراك في حضور يقيمه الحرس الوطني بمواقع جغرافية مختلفة.. شيء خيالي عجيب.. كانت فكرتنا أنه رجل جدية حازمة وأن لغته صارمة، لكن فوجئنا به وهو يضعنا عن يمينه وعن يساره في مأدبة الغداء أو أمام أطباق العشاء، ويذكر الزملاء أننا كنا في البداية لم نكن نعرف كيف نبدأ الحديث؛ إلا أنه وعبر اجتماعين أو ثلاثة ملأنا اليقين بذاته كصاحب بساطة حضور كما لو كان زميلاً لنا.. ليس هذا فقط ولكن فوجئنا به مرح الحديث.. وذكي التعليقات الضاحكة، وأنه في حالة إدراك عميق لأوضاع مهنتنا.. ولم تكن ملاحظتنا توحي لنا بأنه يجاملنا أو يعطينا خصوصية تعامل.. أبداً.. نحن لم نكن نمثل 5٪ من الموجودين الذين وجدناهم يتمتعون معه بنفس عواطف الود ومرح الأحاديث وحقائق المعلومات.. بولاية العهد.. ثم عندما أصبح ملكاً.. كنا نعتقد أن مضاعفة المسؤوليات وتعدد خصوصياتها، بل أيضاً تعدد الأزمات في العالم العربي التي نشأت قبل نصف قرن إضافة إلى محاولة مفاهيم متخلفة لدينا لتكون واجهة لمجتمعنا.. كنا نعتقد أنه لن يجد وقتاً تبرز فيه بساطته الأولى وتعدّد مستويات علاقاته.. أبداً الرجل هو الرجل الإنسان والذكي ومتعدد الكفاءات.. وقد شرفنا بمرافقته كرؤساء تحرير في زياراته الرسمية.. ووجدنا منه كمواطنين نفس قدرات الانفراد بتأهيل القدرات ورؤى المستقبل الصعبة.. معها بساطة التعامل وروحانية حب الناس وتقديرهم.. يكفي أننا لم نزل نذكر عندما عاد من رحلة العلاج كيف أن فئات المجتمع لم تنتظر تنظيماً رسمياً لجهات معروفة.. جامعات.. إدارات حكومية.. منظمات اجتماعية.. الناس خرجوا بنسائهم وأطفالهم.. بل نساء أيضاً بأطفالهن وطلبة من حد المطار وحتى أول ميدان سكاني في مدينة الرياض.. وكان منظراً يثير سخونة العواطف أولئك الأطفال الذين نجدهم في مداخل الأسواق التجارية مثلاً.. بعضهم فوق رأسه صورة للأب الأول.. عبدالله بن عبدالعزيز.. وآخرون يضعون الصورة على صدورهم..