في كتاب مسيرتي مع الحياة لمحمَّد بن أحمد الرَّشيد اختلفتْ إرادة الكاتب وإرادة القارئ. أراد الكاتب أنْ يؤرِّخ لأعماله الجليلة التي وليها، وأراد القارئ أنْ يقرأ في تلك الأعمال الجليلة صوت صاحبها، حُزْنه، وفرحه، أنْ يقرأ سِيرة إنسان اسمه محمَّد بن أحمد الرَّشيد، فقرأ عَمَل الوزير محمَّد بن أحمد الرَّشيد، وهو يُقِرّ أنَّ في عمله جهدًا كبيرًا، وإنجازًا خطيرًا، كان بإمكاننا أنْ نُنْصِفه لو كُشِفَ لنا الغِطَاء عنْ أعمال الوزراء، ومنْ يُشْبههم مِنْ أصحاب المناصب الخطيرة. وحتَّى يكون ذلك، فليس بوسع القارئ إلَّا أنْ يأخُذ بهذا الكتاب بعيدًا عنْ أصحاب المعالي الوزراء إلى حيث أصحاب المعالي الأدباء، فقصَّة الحياة، سِيرةً سمَّيْتَها أمْ مَسِيرةً هي إلى الأدب أقرب منها إلى الوزارة. كَدَّس الوزير في "مسيرته" أضابير وملفَّات ذوات عدد. تحوَّل كتابه إلى "مَخْزَن" نُلْفِي فيه لوائح، وأنظمة، وقراراتٍ. طائفة منها تخصّ التَّطوير التَّربويّ، وطائفة أخرَى تَمَسّ رعاية الموهبة، نقرأ ذلك، وقدْ نجتازه مُسْرعين إذا كانتْ بضاعتنا تبعد، قليلًا أوْ كثيرًا، عن التَّربية والتَّعليم، وقدْ نَغُوص، لحظة، فنَنْسَى، كما نسيتُ أنا، أنَّنا قبالة كتاب معدودٍ في التَّراجم والسِّيَر، ولعلَّك تظنّ كما ظننْتُ أنَّنا نَظْهر على خطّة مفصَّلة موسَّعة أراد مِنْ ورائها صاحبها أن يُبِين عمله، وأن يُثْبِته، وأنْ يُجَلِّيه، ولِمَ لا أقولها، صراحة، إنَّنا نقرأ تقريرًا إداريًّا، هو أشبه بالتَّقْرير السَّنويّ لوزارة أوْ إدارة أوْ ما شِئْتَ مِنْ دواوين الحُكُومة، ثمّ تقرأ خُطْبة للرِّجُل وقدْ كان وزيرًا، وهكذا يَمْضِي بنا الكتاب، تقريرًا وخُطْبةً، ثمّ تقريرًا وخُطْبةً، وحِين تَنْفُض يديك مِنَ الكتاب، إن استطعْتَ عليه صَبْرًا، تسأل: أسيرة ما أقرأ أمْ خطَّة؟ الذي قَوِيَ عِنْدي أنّ المؤلِّف، وهو وزير سابق، أراد أن يَحْفَظ لمُدَّة وزارته ما أنجزه، وقوَّى ذلك كلمات باح بها، بعضها في إهداء الكِتاب، وبعضها في مقدِّمته، وأُخَرُ في أثنائه. نقرأ ذلك وتكاد نُحِسّ وراء تلك الكلمات شكْوى، مردُّها الجحود والنُّكران، هو يواري ذلك، حِينًا، لكنَّه لا يلبث أن يُفْصِح ويُبِين. ويستوقفنا في إهدائه الطَّويل هاتان العبارتان: "إلى الحريصين على الوقوف على الحقيقة المجرَّدة تحت ضوء الشَّمس لا يُغَطِّيها تزوير ولا يُجَمِّلها تزيين. وإلى مَنْ حُجِبَتْ عنهم الرُّؤية: عواطفُ جامحة، وملابساتٌ معقَّدة، وأحكامٌ مُسبقة، وأخطاءٌ في التَّفكير والتَّقدير". لا جَرَمَ أنَّ المؤلِّف الوزير يَدْفَع بكتابه هذا مَظْلَمة نزلتْ به. هناك "حقيقة مُجَرَّدة" خاف عليها التَّزوير، وهناك رؤية حُجِبتْ، وفي الجملة هُناك حقٌّ ضائع، فكان هذا الكتاب وكيلًا عنْ صاحبه يَدْفَع عنه ظُلْمًا وقع عليه، ويُثْبِت حقَّه في التَّاريخ. وهذه الغاية التي ندب نفسه لها: أن يدافع عنْ حقّ ضائع، ويدفع مظلمة نزلتْ به، هي ممَّا يثقل على القلب حقًّا، وممَّا يضيق به الصَّدر، وهي شرْط مِنْ شروط السِّيرة الذَّاتيَّة، يكتبها صاحبها إنْ أحسّ ظُلْمًا وقع عليه، أوْ حقًّا ضاع، فينبري يكتب سيرته، يُخَفِّف ثقلها، ويزيح عنْ كاهله همًّا أمضَّه، فيصوغ كلماته وكأنَّها نفثة مصدور، وأنتَ إنْ فحصْتَ عنْ أمر ألوان مِن السِّيَر الذَّاتيَّة، عند العرب والغربيّين، تعرف أنَّ جمهرة مِنَ المؤلِّفين ما كتبوا عنْ أنفسهم إلَّا لهذا الغرض، فطه حسين كتب "الأيَّام" في أثر أزمة كتابه في الشِّعْر الجاهليّ، وسلامة موسَى أنشأ سيرته تربية سلامة موسَى ليُصَفِّي حسابه مع التَّاريخ! يكتب المرء سِيرته الذَّاتيَّة وكأنَّه يتمثَّل بالقول المأثور: "بيدي لا بيد عمرو"! إنَّه يريد أن يَجْلُوَ للتَّاريخ إنسانًا عاش في حقبة ما، أن يُنْشِئه كائنًا مِنْ كلمات، أنْ يُنْصِف نفسه مِنَ التَّاريخ، ولعلَّ مردّ ذلك خشيته من العبث في تاريخه والافتئات عليه، إنْ هو سكت ومَضَى لشأنه. أَحَسَّ محمَّد بن أحمد الرَّشيد أنَّ لديه حاجة في أن يبوح بما يتلجلج في صدره، أن يُعَرِّف النَّاس جميعًا بما أنجزه، أن يأخذ بأيديهم، واحدًا واحدًا، إلى ما يُظْهرهم على ما له مِنْ سهم وافر في الأعمال التي نِيطتْ به، وحشد لكتابه كلّ الأدلَّة والشَّواهد على صِحَّة ما يقول، أورد أحاديث وكلمات ومراسلات، فالشّهود عمّا قليل يتساقطون، والذَّاكرة تخون، والجحود صفة ظاهرة في النَّاس، وهو يريد أن يقول الحقّ ولا شيْء غير الحقّ "وقدْ حملني على إيراد هذا كلّه أمور مِنْ أهمّها: أنّ الجحود –للأسف الشَّديد- أصبح صفة ظاهرة في بعض دوائر مجتمع لم يكنْ يعرفها مِنْ قبل؛ وأنَّ التَّاريخ يجب أن يجد مادّته الصّحيحة مِنْ مصادرها المباشرة بدلًا مِنْ أن يعتمد على روايات، إنْ حفظ بعض الرُّواة تفاصيلها ينساها آخرون، فتتضارب الرُّؤى وتضيع الحقيقة؛ وأخيرًا فإنَّه كان مِنْ حقّ إخواني الَّذين أعانوني في مختلف أقسام الوزارة ووكالاتها وإداراتها أن يجدوا بعضًا ممَّا أنجزوه حاضرًا فيما أسطِّره عنْ مرحلة زمنيَّة مهمَّة مِنْ عطائهم العِلْميّ المتميِّز، وتفانيهم العمليّ، الذي لولاه لما كانت الحال في المؤسَّسات التَّعليميَّة والتَّربويَّة في بلادنا على ما هي عليه اليوم. غير أنَّ أهمّ ما دفعني لإخراج هذا الكتاب هو: إبراء الذِّمَّة أمام الله تعالَى، والقيام بواجب البيان الذي يمليه عليَّ الموقع الذي كنتُ فيه". (ص ص 11-12) هلْ يُفْهَم مِنْ هذا الكلام أنّ غاية الكتاب هي أنّ ما بلغتْه المؤسَّسات التّعليميَّة في البلاد اليوم لم يكنْ ليكون لولا تلك المدّة التي أمضاها الوزير محمَّد بن أحمد الرَّشيد ورفقاؤه في وزارة التَّربية والتَّعليم؟ إنَّ ذلك بيِّن في كلامه. وهل بحسبان قارئ فيه شيْء مِنَ الشَّغْب أن يزيد الأمر جلاء ووضوحًا فيقول: وما يقدم مِنْ مستقبل؟! والأمر لا يحتاج إلى سخرية أوْ تهكُّم، فالكتاب يفصح عنْ ذلك، بلْ إنَّ في الكتاب وثيقة عنْ تطوير التَّعليم إلى سنة 1435ه، وزمن نَشْر الكتاب هو سنة 1428ه، وزمن إنشاء هذه المقالة في خواتيم سنة 1432ه، فالوزارة لا زالتْ تعيش على خير ذلك الجيل! والمسألة لا بأس فيها مِنْ وجهين: أمّا الأوَّل فإنّ الجديد يعيش على تراث القديم، وهي مسألة متَّفق عليها. وأمَّا الآخَر فكاتب السِّيرة الذَّاتيَّة، وإنْ أقْسَم اليمين على التَّواضع، فهو لهج بنفسه، مزْهوّ بها، وويلٌ للإنسان مِنْ "أنا"! والكاتب –وإنْ كان وزيرًا- هو إنسان كغيره مِنَ الأناسيّ، يفرح لنفسه، ويزهو بأعماله، وينتظر كلمة شكر على ما فعل، ومِنَ المظنون –بل هو راجح لا شكّ في ذلك- أنَّ مَنْ يلي أمرًا مِنْ أمور النَّاس يسمع ألوانًا مِنَ الثَّناء، في أثناء ولايته، أمَّا أعماله فلا أعظم منها، وأمَّا كلماته فعذبة رائعة، وصغير ما يفعل كبير في موازين التَّاريخ، حتَّى إذا أُقْصِي عن الأمر، إذا به يخرج وحيدًا إلَّا مِنْ نفسه. يُتْبَع..