جاش واد يقع في منطقة عسير، ويتبع إداريا محافظة تثليث، وهو امتداد لوادي طريب، وجاش عاش في أكنافه الفارس عمرو بن معدى كرب، بهذا يحدد الاستاذ مسعود بن فهد المسردي موقع وادي جاش في كتابه:» جاش.. عبق الماضي وإنجاز الحاضر»، وجاش الوادي الذي يطول التعريف به ويمتع، بما أودع المؤلف كتابه من نصوص شعرية، وصور طبيعية، وأحداث تأريخية منذ القدم الضارب في أعماق التأريخ حتى اليوم، لعلي اليوم انتقي الجانب الأدبي من أبواب الكتاب وذلك لا يغني عن اقتناء الكتاب والرجوع إليه بين حين وآخر لاستجلاء ما يدخل المتعة إلى النفس، ويثري الوعاء الثقافي لدى القارئ، حيث جاء الكتاب ملبيا تطلعات الأديب والمؤرخ الجغرافي وطلاب المعرفة بعامة، وموطنا علاقة الأجيال بتراب بلادهم. لقد أهداني المؤلف هذا الكتاب منذ أيام وقرأته أكثر من مرة. كتاب يطمئن أبناء البلاد برابطة المنتمى والتأريخ والحاضر والمستقبل سواسية في التراث والإبداع والقيم قبل أن يجمعهم لواء الاسلام وتشد بعضهم إلى بعض وحدة وطنية أزالت الحواجز والعقبات فعادوا كما هم إخوانا. ولعل في النصوص التي نختار اليوم دليلا على ما أشرت إليه من أن الانسان ابن بيئته يؤثر فيها وتؤثر فيه، وأن تقارب القيم والطباع وليدة البيئة المشتركة، ومثلها الاتجاهات والمثل التي يحرص الناس على غرسها في أبنائهم لتحقيق حياة افضل. ولقد شغف اهل جاش بحب النخل وفضلوه على غيره من المال، ذلك أنه يجود عطاء، ويصبر على الجفاف، وهو قليل الآفات، متعدد النفع. وهذا الشاعر فراج المسردي يقول: لا جِرْبَتْ المعزا وجا الهَيْف في الضان والبل خذوها راكبين الأشدَّة لَيْهي تَغَيَّا كِنَّها عود ريحان تزرع فوادي كل يوم بجِدَّة اذا تعرضت الماعز للجرب والضان لمرض الهيف الذي يصيبها بالهزال ويودي بحياتها، وأخذ الغزاة الإبل ثبتت النخلة في ارضها تتمايل في غنج ودلال كفرع ريحان. وكلمة ليهي بمعنى إذا بها، وهي كلمة تدليل، وتغيَّا من الغيا وهو من خيلاء المنعمين الواثقين، يمثلها بالغادة المنعمة، وما دامت تتغيا أمامك فإنك ستشعر بالسعادة وجدة الحياة، والنخلة أو عمتنا النخلة إذا ما أوليت بالرعاية والعناية فإنها الأطول عمراً بين الشجر والأكثر عطاء، وليس المسردي أول من تغزل في النخلة فقد تغزل فيها قبله الشاعر النميري الذي يقول: هي نخلة أبدت مفاتن حسنها كمليحة زفت إلى العلياء إلى قوله: هيفاء باسقة القوام بديعة وأنا وأنت نهيم بالهيفاء والناس في الجزيرة العربية يمجدون النخلة ويفاضلون بين أنواعها، ويتناقل الرواة هذا الإبداع، وقد اغتاظ الشاعر رجا بن عسل المسردي من مديح حلوة الجوف أو انه أراد أن يمتدح نخل جاش مفضلا إياه بقوله: أحب واحلى من بلح حلوة الجوف بَلَحْ نخل جاشٍ عسى السيل يسقيه ماني على كُثْر المفاضل بمكلوف لكن جاشٍ غالي عند راعيه وعندما يمتدح أهل جاش شيئاً آخر يذكرون إلى جانبه النخلة مثل شاعرهم القديم الذي يقول: أرَّثت لي جُرْد الركاب المشاعيف وبَرْنَّيِةٍ لا جا المقيِّظ نصاها والبرنية من أجود النخل رطباً لبرودته على الجوف وحلاوة مذاقه. ولما تزل النخلة عند أهل جاش تحافظ على مكانتها، فهذا الشاعر فلاح المسردي بعد أن تعددت مصادر الدخل لم يتخل عن النخل، بل انه يوصي ابنه حمد أن يهتم بالتدريب وصيانة مكنة الزراعة فيقول: قم يا حمد يا ابوك عن حافة البير كُبْ الحكي يامسندي والدوادي تسأل وانا اجاوبك لكنك صغير من صغر سنك ما فهمت المرادِ لكن تفضل خذ جوابيِ بتعبير من ضامر يقدح سواة الزنادِ عند المكينة قم نربط مسامير يجذب بها الما يا مضنة فوادي نسقي بها يا ابوك غرس جبابير غرس عطانيها إله العبادِ روابخ فيوسط جاشٍ معاطير لاجلك بذلت بْها جميع اجتهادي من فضل ربي دبر العبد تدبير شريتها لك يوم نادى المنادي سقنا بها الموتر وسقنا الدنانير لاجل يجي لك وسط جاش بلادِ تصير لك ملكاً يخصك عن الغير وتغنيك عن بعض الربع لاقتصادِ وانا برجوى من يسوق المعاصير يحييك لي ويحط فيك السدادِ تكبر وتكفيني ببعض المشاوير و تسنِّعْ صغار النخل والعبادِ حتى ليا جاك المسيِّر على خير تقدم الدلَّة وتمرة قنادِ القصيدة واضحة المعاني، وبها قليل من لغة الماضي، والدوادي هي من القصص التي يستهلك بها الوقت من دون جدوى أو نفع، والغرس الجبابير هي الفسايل المغروسة حديثا كما فهمت، فالمجابرة تعني هنا العناية المركزة لئلا يظمأ الغرس أو يحيف. أما الروابخ فهي الثابتة الباقية تجمل الوادي وتعطره. وعباد النخل قديمه من النخل المعمر، والقناد يبدو إنه من أزكى النخل في جاش كما فهمت ايضا. ويبدو أن الشاعر انتهز فرصة عرض هذه المزرعة للبيع فباع سيارته ليكمل بثمنها ما لديه من نقود لشراء المزرعة. ترى ما أخبار حمد ونخله؟ إنه حنان الأبوة وحب الارتباط بالأرض. ومادمنا نتحدث عن النخلة في أرض النخل ألا ترون تعلق الناس بالنخل وارتفاع قيمة ثمره الغذائية والشرائية وجمال منظره في شوارعنا وحدائقنا؟ ثم ألا ترون ما تعامل به النخلة في هذه الشوارع والحدائق؟ يجذ طلعها عند ظهوره تهرباً من خدمتها، وثمر النخلة من كمال زينتها، وقد مثلت بأنها عمتنا لعميم نفعها وتشابهها بالإنسان في حياته ونفعه وموته. وأخيراً ألا ترون أنها تحزن حين تفقد ثمرها؟ ذلك الثمر متعدد الألوان والأنساق، متجدد وسائل الاستثمار فبعد أن كان طعام الفقير أصبح حلوى الغني. والكتاب كما يقول الدكتور مبارك الطامي عنه: «بمثابة ذاكرة للزمان والمكان، أعطى فرصة للتعرف على المكان «جاش». وأقول مثل قولة، الا انني أتساءل عن شيء يبدو أن المؤلف تجاهله ولم يورد عنه سوى أبيات قليلة هي قول الشاعر سعد المسردي: جعل الحيا يعل جاش وتثليث وجعله على حدبا المصاقه نثر ماه حيثه مربَّك يا غزال الدعاثيث مودّم كن العسل في شفاياه وجدي عليهم وجد من سجن في الليث حمله ثقيل وبايرين دناياه وقول الشاعر ابن نمشة الخنفري: حييت ياراعي الذلول الدقيقة اللي من القنَّة عهيد باهلها عيَّنت لي راعي الخدود الرقيقة اللي قرونة عذبت من عملها تلقى عشيرى نازل بالحثيقة والاّ على دنة مع اللي نزلها أقول قولي هذا وفقاً لما عرفنا عن شعراء مثل هذه الديار العذيَّة، ووفقا لما عرف من شعراء هذه المنطقة في العصور القديمة وأعني بهم شعراء الفصحى. وأورد هذه الملاحظة عطفاً على ما اعرف من بعض الناس من انتقاص شعر الغزل، وأخي المؤلف يعبر مؤلفه عن حذقه وثقافته، فربما نزل إلى حيث ما يحب الناس ذكره عن أسلافهم. وتجاوز عما يعذب تلقيه، ولكن التعلق بالديار الذي وجدناه في شعر المساردة في هذا الكتاب يفيض رقة وعذوبة وينبئ عن ديار كل ما فيها يحرك الوجدان لا يصدق متذوق للشعر أن يقتصر شعرهم على القهوة والمعاميل ونثار المطر في فياض معشبة، وسفوح جبال ممرعة. هداك الله يا مسعود ادخرت هذا الشعر لنفسك، ولم ترد زيادة امتاعنا، ولكنك أثريت ثقافتنا بكتاب قيم ضم معرفة تهم كل أبناء المملكة، وبخاصة الدارسين والباحثين وعشاق الرحلات والاستطلاع، وكنت رصينا ودقيقا دقة الباحث المتمكن فلك الشكر والتقدير، وأشير أخيراً إلى كل ما ورد في هذا المقال من نصوص إنما هو من محتوى هذا الكتاب.