سيطرة كبار السن على مفاصل الحياة تجعل الماضي حاضرا وجميلا. إذا استعرضت الكتاب والمسؤولين والقياديين ورجال الأعمال في كل أنحاء العالم ستجد أن معظمهم تجاوز الأربعين والخمسين. الماضي دائما جميل لأن أصحاب الماضي يمسكون دفة الحياة وصياغة الذوق. عندما يذهب هؤلاء إلى قبورهم يحل عادة مكانهم أناس تجاوزت أعمارهم فترة الشباب بمسافة كبيرة وتتكرر المسألة. حكاية دعونا نسمع رأي الشباب ودعونا نعطي الشباب فرصة ليس سوى نفاق زائف لم يحدث أبدا. لا يحصل الشباب على فرصة القيادة إلا في المؤسسات التي أقاموها بأنفسهم أو ورثوها. فترة الشباب هي فترة تجميع الذكريات أما علكها والبكاء عليها وجعلها مقياسا فسوف يتم في المراحل التالية من العمر. عندما تختفي النظرة الوردية الحالمة وتضيق الطموحات. عندما تصبح حبيبة القلب زوجة بذيئة وحبيب القلب زوجا وقحا متكرشا. تواجه نظريتي هذه بعض التحديات في عصرنا هذا. الفن أفضل مكان تختبر فيه مثل هذا الكلام. أيهما أجمل, الفن في الماضي أم في الحاضر؟ لا تستطيع أن تقاوم الجواب التقليدي. لم يقدم لنا عصرنا هذا أعظم من أم كلثوم أو أعظم من فيروز أو أعظم من محمد عبده الخ, مع كثير من النقد القاسي لفناني اليوم. أتوقع أن المستقبل لن يحمل معه مثل هذه النظرة المتشددة للماضي. تعمير فنان اليوم غير تعمير فنان الماضي. ( الحياة ككل تأخذ منحى آخر ). عدد وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية في الماضي محدودة جدا، الأمر الذي يحد من عدد الفنانين أيضا. بنظرة سريعة إلى سوق الفن في الماضي ستجد أنه كان تحت سيطرة عدد من الأسماء الفنية. فمثلا لبنان التي تمدنا اليوم بمئات الفنانين والفنانات لم نكن نعرف عنها في السبعينات وبداية الثمانينات سوى ثلاثة أو أربعة فنانين. تزيد مصر على لبنان بنسبة ضئيلة بسبب عدد سكانها. في ظل هذه المحدودية كانت الفرصة متاحة لترسيخ مفهوم الأيقونة. في المملكة مثلا تم ترسيخ محمد عبده وطلال مداح كحالة متعالية. وفي مصر تم ترسيخ أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش، كما تم ترسيخ فيروز في لبنان والدويكالي في المغرب وهكذا. إلى جانب قدرات هؤلاء الفنية التي لا ينكرها أحد، شكل هؤلاء نفوذا وعلاقات وأبواقا إعلامية ومثقفين يساندونهم ويروجون لهم. هكذا أصبح هؤلاء أيقونات تجاوزت وقتها وتعالت على النقد. في عصرنا لا تسمح كثرة القنوات أو سرعة الانتاج تكوين أيقونات بحجم أيقونات الماضي. أصبح المسيطرون على منافذ الفن متعددين ومتنافسي،ن وخف تأثير الأيدلوجيا. فرضت وسائل الإعلام الجديدة شروطا جديدة. لو أن أم كلثوم ظهرت في عصرنا هذا لما حازت على ما حازت عليه. لن تحصل على الفرصة الكاملة للتعبير عن موهبتها, أما فيروز فلن تجد من يسمح لها بدخول الاستديو أصلا ومثلها عبدالوهاب، الدوكالي وطلال مداح. الفنان في الحاضر لا يطيل المكوث على القلب. يأتي من يزحزحه وينافسه وفرص الظهور الكبيرة تطيح بهيبته. كان الماضي, بالعكس, مجمعا في أسماء محدودة في الفن والأدب والسياسة الخ.. قلة عدد الفنانين وقلة الظهور تؤسس علاقة استعلائية بين الفنان وبين المتلقي تصل إلى الولاء. يصبح هذا الفنان هو المعيار. كلما برز فنان جديد يقاس عليه. إذا سار على درب الفنان الخالد وسم بالمقلد وإذا اختط طريقا جديدا ستقاومه الدوائر المسيطرة. نلاحظ اليوم أن زمن الفنان الخالد قد انتهى. لا يوجد طلال مداح جديد أو فيروز جديدة أو محمد عبدالوهاب جديد. الفنانون اليوم فنانون بدون تفخيمة "الخلود". أتوقع في المستقبل أن يفقد الماضي الدفء المرجو منه ويصبح ماضيا فقط.