تحدثت في المقال الماضي عن زواج القاصرات، وأنهيت المقال السابق بأني سأكمله اليوم عما عاصرته من خلال عملي في الشئون الاجتماعية، كما أن سجلات المحاكم تعرف ذلك جيدا.. والعجب رغم ما تراه المحاكم إلا أن هناك ترددا في إقرار نظام يجرم هذا الزواج.. قلت بمقالي السابق أن حقها بالطفولة يغتصب، وهذا حقيقي وأكبر تأثير بذلك حقها بالتعليم، هذا يعني سرقة حقها في تكوين مستقبلها وبناء الذات، ناهيك عن حاجتها للعمل عندما تحتاجه.. وللأهل أسبابهم، رجل (لقطة)، ومفهوم اللقطة يختلف من مجتمع لآخر، ففي حين يرى أن التدين ومظاهره هي علامات الخوف من الله، وبالتالي سيتقيه بالصغيرة، والبعض يرى الغنى سيكفها شر الحاجة، وينال أهلها من الخير نصيبا، وهذا هو المستشري الأكبر.. بعضهم يرى المنصب سندا لها ولذويها. لكن كل ذلك سيقضي على مستقبلها وبنائه، بالقضاء على الاستعداد للمستقبل وتكوين الذات، وتركها لظل رجل لا يُعرف متى يزول، خاصة إذا كان الظل أعوج وهناك شركاء فيه.. الشيء الثاني والذي لا يجب أن يغفل هو خبرتها الاجتماعية الأقل تكوينها مما يضعها في مصادمات أو حالات انطواء وتكون عرضة للإستلاب. الثالث ولعله مهم جدا، شبابها وطاقاتها ورغبتها عندما تكون في الثلاثين حتى الأربعين مقابل شيخ في الخامسة والستين فأكثر. تشهد أروقة المحاكم الكثير من القضايا التي طرفاها رجل شيخ وسيدة صغيرة السن تطلب العتق.. حيث عدم تكافؤ العقليتين والعمرين مع بعض، مع الخشية على نفسها الضرر، وهذه الأخيرة كثيرا ما يوقع القضاة باشكال، خاصة عندما تقول له بصريح العبارة إنها تخشى على نفسها الفتنة، هناك من يطلب منها الصبر والاحتساب، ومن يطلقها على أن تدفع له مهره، وتأتي المشكلة هنا في المهر، فالمهر لم تعرف عنه، كما لا تستطيع سيدة بدون عمل ولا مورد أن ترد له مالا، وقد دفعت طفولتها مقايضة له.. تشهد المحاكم ماهو أمر سيدة ترتكب جريمة قتل، وغالبا الزوج هو المغدور.. ولن أنسى الفتيات اللواتي كن في ضيافة مؤسسة رعاية الفتيات، حتى ساعة القصاص. تختلف غالبا الوجوه، وطريقة التنفيذ، ولكن قد تتفق الحكايات، غالبا هناك زوج كبير وسيدة تخلصت منه، ودائما بوجود رفيق، وهذا الرفيق دخل من باب خلفي لنفسها باب يتناساه أولياء أمرها، ويقبرونه.. لن أنسى فتاتين، زوجة في بداية العشرينات لشيخ طاعن، والأخرى ابنته مقاربة لها عمرا والتي كانت تلقى صلفا كبيرا منه، قتلتا الأب برشاشه، أقسمتا غليظ الإيمان أنهما لم تكونا تنويان قتله، إنما كانتا ترفعان الرشاش وهو نائم وتتمنيان لو تقتلانه، وحدث أن انطلق الرشاش به فمات.. قد تكون هي الحقيقة وقد لا تكون، من رعبهما اتصلتا بصديق زوجة الأب الذي خاف ورفض مساعدتهن.. وكان الحكم بالقصاص.. أثناء إقامتهما كانتا في منتهى الأدب والطيبة مع البنات في المؤسسة ومع جميع الطاقم، يعملن ويطبخن ويساعدن، وقد ألفتا مسرحية جميلة حضرتها لهما.. عندما أذيع خبر القصاص منهما، حزنت عليهما معا.. رغم علمي أنه استحقاق. لقد أثرتا بي كثيرا، غيرهما كن يمررن اما بتنازل أصحاب الدم وإما يقتلن قصاصا، لكن أكثر شيء آلمني هو واحدة كان لها أبن وليد حين الجريمة، بقيت في المؤسسة حتى سن الثلاثين، ثم رحلت للسجن العام بانتظار ابنها يبلغ الثامنة عشرة، ليطلب القصاص أو يعفو.. ولم يكن وحده يملك حق الدم.. هي الحكايات كثيرة غير تلك التي يصحو ضميرها، وتريد أن تعترف بأن طفلا أو طفلين ليسا منه.. وتطلب المشورة، وما لا نعلمه يعلمه الله وحده.. مهما قلنا ومهما حكينا يبقى التكافؤ العمري والمعرفي والاجتماعي ضروريا جدا لإقامة حياة زوجية سعيدة. أو على الأقل تشعر الاثنين بالرضا.. وتبقى ضرورة تجريم هذا الزواج..