في الماضي إذا غابت زاوية الكاتب مرة أو مرتين أول سؤال يطرأ على الأصدقاء: ها وقفوك عن الكتابة؟ لا يجيب كاتبنا على الفور. يفكر قليلا ثم يغمغم بكلمات توحي بكل الاحتمالات.كقوله: (خلها على الله ياشيخ)أو( وش تبي الواحد يسوي يا أخي) ثم يأخذ الموضوع إلى آفاق نائية توحي بوطنيته وغيرته وصراعه الذي لا يكل من أجل حرية الكلمة. إذا سألته ليش أنت مقل او غائب عن الإبداع. يجيبك بروح المناضل اليائس (يا اخي. زمن رديء).يعطيك الاحساس أنه جاء إلى هذا الكون قبل زمانه المقرر. ثم يقول بكلمات غير حاسمة: الكتابة شيء والنشر شيء آخر. يحاول أن تفهم أنه يكتب ولكن لا ينشر.فيتركك أو تتركه بعد أن تتأكد أن درج مكتبه مليء بالرقائق المخطوطة بقلمه في انتظار الزمن الذي يستحق أن تشرق عليه كلماته. أسماء وقصص طريفة مرت في السنوات الطويلة الماضية.لا استطيع مع الأسف كتابتها لأسباب شخصية.أصدقاء قدامى وأناس رحلوا عن الدنيا يستحقون أن ندعو لهم بالرحمة. الشيء الوحيد الباقي على حيويته هو تغير الأيام سريعا وبعيدا عن كل التوقعات. لم يكن احد من كتاب الثمانينيات فضلا عن السبعينيات يتخيل أن الحرية سوف تصل إلى هذا المستوى. مقالي عن المرور كان مستحيلا في السبعينيات وإبداعا عظيما في الثمانينيات وشجاعة كبرى في التسعينيات وكلاماً لا قيمة له في عقدينا الآخيرين. في أفضل الأحوال يمكن القول إنه بلسم سيكيولوجي للقارئ ودرس تاريخي للكاتب. دعني أشرح لك هذه الاحجية. لو نشر بنصه في زمن الابداع العظيم (الثمانينيات) سوف يوقف الكاتب عن الكتابة مع تجميد لمن إجازه. في زمن الشجاعة الكبرى (التسعينيات) سوف يرتبك كبار المسؤولين في المرور وستقرأ الردود والشروحات مع الوعود الصادقة. أما في العقدين الأخيرين من القرن الواحد والعشرين فقدْ فقدَ كل شيء معناه.صار النقد يعطي نتائج عكسية. أمست الكتابات تؤثر في القارئ دون أدنى تأثير في المسؤول وصاحب الشأن. وظيفتها الوحيدة تبريد الكبود فقط. سوف تجلس في مجلسك او في مكتبك في العمل وتقرأ المقال وأنت تكافخ وتنافخ. ثم تمدح الكاتب وتتصل على اصدقائك ومعارفك وتوصي بقراءته. بينما المرور في الشارع لم يتغير ولن يتغير بسبب مقال أو عشرة او مئة ولا يجهلك هذا الشيء. خذ الجرائد في السنوات العشر الماضية. نقد وخبط ولزق هل تغير شيء؟ الحقيقة التغيير جرى في داخلك, في سيكيلوجيتك أثناء قراءة المقال(جرى تبريد كبدك). تتوالى المقالات واحدا تلو الآخر إلى أن تتجمد كبدك وتفقد الاحساس. الشارع والطريق والسيارات والفوضى كما هي ( حطة ايدك ) كما يقول إخواننا الاشوام. بعد فترة سوف تطفش من الكاتب وتنقلب عليه. ستتصل بأصدقائك ومعارفك وأنت تردد (يا أخي هذا الكاتب ما عنده إلا المرور). هذا يؤكد للكاتب أن الحال في الماضي أفضل من يومنا هذا. قليل من الحرية أبرك من كثيرها. زحمة المقالات الناقدة تُسقط هيبة الجرائد والإعلام برمته. هذا بالضبط ما حدث والله المستعان..