هذا مما رآه الوقداني في قصيدته المفعمة بنصائحه، وهي من القصائد التي سارت بها الركبان ولقنها الناس أبناءهم ليقتدوا أو ليأخذوا بما جاء فيها من نصائح ثمينة. أما الشاعر الصيادي الجهني فهو من أجود الشعراء شعراً وأكثرهم مثلاً وحكمة، وكان رجلاً مزواجاً يختارهن من الأسر القيادية في القبائل، لا يعنيه الجمال بقدر ما يحرص على أن تكون زوجه من الأسر ذات الحسب والنسب، تطلعاً إلى كسب مكارم الأخلاق وحسن الخصال، وتربية الأجيال تربية لا تخلف تطلعه لحياته ومستقبل أبنائه، فلما تم له ذلك ورأى نجابة أبنائه ارتاح إلى تحقيق طموحه، ورغب أن يحظى في مستقبل عمره بامرأة جميلة، يمتع بجمالها ناظريه، ويأنس إلى قربها، فتزوج من امرأة جميلة بهره جمالها وفتن بها، وهي من أوسط الناس نسباً، فتحقق له من المتعة ما تمنى، وانجبت له طفلاً جميلاً يفضل إخوته في الوضاءة والمظهر، فغمره بما غمر به أمه من حنو وإشفاق، وسعى إلى سلامته من الإرهاق والعلل، ومنحه من التعلق به والدلال ما لم يكن لإخوته، فشب الفتى مختلفاً عن إخوته، فكان الأب إذا ما أراد شيئاً تسابق الأخوة مبادرين إلى إحضار الطلب، بل إنهم قد يدركون مطلب الأب دون قول أو إشارة منه، أما الفتى فيظل ساكناً يقلب ناظريه في أبيه دون أن يهب مثلهم مبادراً لتلبية طلب أبيه، منتظراً أن يطلب منه ذلك، فشعر الأب بمرارة وقال: جوِّد ولدك إذا تعلَّيْتِ الأنساب يعجبك حَبَّك لا تعلّيْت في ذراه عُود الضَّرَمْ ما يوقد النار مشهاب ولا كل من كثَّر بوقده وقهواه شوف الحبَيْنَة ما يجي عَقْبها داب والذيب عقَّبْ للغنم ذيب ما لاه وجعان لو أنك تكوِّيه ما طاب علَّهْ وخايف بَرْدَة الوجه واعداه وأرى أن الفتى راح ضحية الدلال والإشفاق، فقد وجد في مرحلة عمر متقدمة، فاجتمع ضعفان طفولة وشيخوخة وانشغال أم برعاية مطالب الزوج المفعم بعاطفة جياشة نحوها واستمتاعه بعذوبة شبابها وبلائها في تجسيد تميزها عن ضرات كلفن بمطالب حياة بيت رجل مضياف، وسيد من سادات القبيلة. وهي حياة شاقة. وأقول للشاعر من الصعب الجمع بين متعتين قد تفسد إحداهما الأخرى، ولا تنس أن مسؤولية التربية تقع على الزوجين مشتركين، وأنك من شغل هذه الفتاة برعاية تطلعاتك ومنحت الطفل شيئاً من الحنان الذي لم يجده إخوته، ولقد ضربت لنا أمثالاً رائعة ونقلت لنا مفردات نسيناها، ولم نثقف أبناءنا بها، لاعتمادنا على سواهم في أمور خدمتنا وشغلوا بتأهيل أنفسهم بسلاح مستقبلهم، والنسل عند الأجداد زرع وغرس تختار بذوره وغرسه اختياراً دقيقاً، تراعى فيه الجودة: على مقطع العود تنشا النوامي ولا تختلف حبة عن ذراها والضرم نبتة تنفع للأشعال وليس للوقود، والحبينة هي الحرباء وليست في منزلة الداب. أما الذيب فالكلاب من سلالته ولجودته فإن سلالته لا تقل أهمية عنه في الصد ودفعه ذاته عن عدوانه على من تقوم الكلاب بحمايته. والعلل الاجتماعية مرض كما يذكر الشاعر قد لا يجدي فيها العلاج. وأنت أيها الصيادي لم تسع لإغضاب أمه كما قد سعيت لإغضاب من قبلها رحمكما الله. وقد تضامن معك أيها الشاعر شعراء كثيرون منهم أحمد الوديد الثقفي الذي أوصى ابنه بحسن اختيار الزوجة فقال: واوصيك بنت اللاَّشْ يعجبك زينها ويجيك ابنها مثل الهدانْ بلود لا فيه لا نفعة ولا فيه سرة ولياجاه رَوْدٍ ما يسد سدود ولا تأخذ إلاَّ بنت ظفرٍ مسمَّى ومن بيت منسوب عريب جدود ومثله الشاعر بديوي الوقداني الذي يقول: اترك البيت الردي وانص الرجال خذ عريبة جد من عمّ وخال يوم تنظر في ولدها كالهلال وان مشى في الدرب ما يغوي الدليل وفلسفة عربة أو عروبة الجد لا يلام فيها الأولون، فقد تكون المجتمع من فئات بعضهم لبعض سخريا، فذوو المكانة فيه جاها أو مالاً ينظر إليهم قدوة في الخلق الكريم لحرصهم على تجسيد مكانتهم تجسيداً يليق بهم، وهم يتلقون التوجيه منذ صغرهم ليشار إليهم بالبنان ويرثوا مناقب آبائهم، وهم يستقون كريم الخصال مما يثار في مجالس آبائهم وما يروى عن أجدادهم من شجاعة وفروسية وخلق كريم، وما يتلقون بأنهم فئة تختلف عن العامة فيجب أن يكونوا كذلك محافظة على سمعتهم واحتلالهم مكانة مرموقة في المجتمع، وهم يحضون على تجنب مصاحبة من ليس لهم ذكر حسن، ممن شغلوا في حياتهم بخدمة أصحاب المكانة أو بالكد من أجل توفير لقمة العيش، ولم تكن الفرصة متاحة لهم ليبلغوا ما يبلغه الآخرون من مكانة علمية أو تجارية أو وظيفية، وهذا ما يعرض القيم ومعايير اختيار الزوجة إلى التغير والتبدل، وهو تغير بطيء لترسيخ تلك القيم والمعايير زمناً طويلاً، وكما اعتراها البلى في مجتمعات بعيدة ومجاورة سيعتريها في مجتمعنا آجلاً أو عاجلاً وهذه سنة الحياة، ولا لوم على المتمسكين بذلك دفعاً لنتائج قد تتعرض لها الأجيال ممن لا ذنب لهم، كما لا لوم لمن نظر إليه بأنه أدنى رتبة تبعاً لظروف الحياة التي لا ترحم، ولكنها لا تقوى على مواجهة عوامل التغيير. إنه من الطبيعي أن يختار الفرد من النساء من يرتاح إلى عشرتها، ومن تساهم في تنشئة أبنائه تنشئة صالحة، ومن حق الزوجة أن تعطى حق الموافقة على من اختارها. ومعايير الاختيار تتبدل من مجتمع لآخر ومن زمن لزمن، والدافع لها تحقيق الاستقرار الأسري، واكتساب مصالح تساهم فيه وتنشئ جيلاً تتحقق على يديه أحلام مستقبل والديه. ونلاحظ مما تقدم احتفاء الآداب العربية وبخاصة الشعبي منها بأهمية الأم في تحقيق تلك الأهداف، واعتبرت أرضاً خصبة لا تنبت إلاّ طيباً إذا حسن اختيارها، وأعطيت الأسرة موالاة من الزوجين. ومن هنا أيضاً يتبين لنا اهتمام الأدب الشعبي بالفضائل التي تساهم في تشكيل شخصية الفرد وتركيزه على الأم باعتبارها الرحاب التي تتفيؤها الأسرة وتضفي عليها وارف ظلالها.