تعيش الأسر غالباً بعد وفاة الأب اختلافاً في اتخاذ القرارات المصيرية، وتحديداً حين يكون البديل غير مهيأ لتحمل المسؤولية، فهذا يوافق والآخر يرفض والثالث يشكك في الآراء والحلول المطروحة. ويعاني من يخلف الأب صعوبة البت في القضايا التي تحتاج إلى ذلك، كما يعاني من ضعف ثقة من حوله بقراراته والتشكيك بها ومقارنتها بتلك التي يتخذها من كان قبله في مواقف مشابهة؛ الأمر الذي قد يتسبب في ثغرةٍ بين أفراد تلك الأسرة، ويصبح كلٌ منهم غير قادر على حلّ المشاكل واتخاذ القرارات ويبدأ الكل يعيش على مبدأ "نفسي نفسي".. "الرياض" طرحت الموضوع وناقشته فكان التحقيق التالي. د.السدحان: «من عرفك صغيراً حقرك كبيراً»! انعدام الثقة بدايةً ذكر "سلمان بن حمد" أنّ التقدير يكون لأكبر شخص في العائلة ومن يتولي الأمور دوماً، وفي حال فقده أو غيابه من الصعب أن يسيطر أحدٌ بعده، ولا يستطيع من يخلفه الإمساك بزمام أمر العائلة أو حتى الحصول على تقدير لذاته؛ وذلك لضعف ثقتهم به، وعدم تجربتهم له في أمورٍ سابقة، ونتيجة لانخفاض وعيّهم وظناً منهم بأنّهم يستطيعون إكمال مسيرة حياتهم والتعامل مع معتركاتها لوحدهم دون الحاجة إلى من يرشدهم. د.العقيل: الأسرة تحصد تربية أبيهم بعد غيابه توعية الأسرة وكشفت "بدور سليمان" أنّ فقدان كبير العائلة يترك حلقةً مفرغة لا يمكن لأحد سدُّها، ومن يحلّ مكانه لا يستطيع السيطرة على كافة الأمور وإتمام ما كان يتمه رب الأسرة. وقالت:"مجتمعنا يفتقد إلى التوعية في مثل هذه الأمور، فالكل في هذه الحالة يعمد إلى الإتكال على نفسه، وربما يستعين بأصدقائه في حلّ مشاكله، زاعماً أنّ العائلة ليس لها القدرة على حل المشاكل". تكاتف الأسرة يقلّل من تبعات غياب الأب الخوف من المسؤولية وأوضحت "هند عبدالله" أنّه عندما يتوفى الأب ينتظر أن يسير البديل على طريقه، ولكن البديل يكون متخوفاً من تحمل العبء وعدم قدرته على محاكاة الأب، وعادةً ما يكون هذا التخوف سبباً في زعزعة ثقة باقي أفراد الأسرة في امكانية نجاحه، وذلك يجعله يحاول عدة مرات حتى يتمكن من استعادة ثقة من حوله به، وفي حال عدم تمكنه من سد المكان ولم يستطيع فرض أمر على من حوله لا يحصل على تقدير أفراد الأسرة، ويكون لكل شخصٍ منهم استقلاليته.. ووافقتها "هناء الجبيل" في أنّ عدم سيطرة الأشخاص الذين يتولون الأمور وفرضهم لاحترامهم واثبات جدارتهم بمركز قائد الأسرة يجعل البقية لا تقدرهم، ولا تكون لهم كلمة مسموعة. د.عبدالله السدحان "كلٍ يشيل نفسه" وتحدثت "هيفاء عبدالسلام" عن صعوبة منح "الولي الجديد" كامل المسؤولية والثقة التي عهد أفراد الأسرة منحها للأب. وقالت: "اعتدنا على شخص معين نراه متفهماً لكافة أمورنا، وحلول مشاكلنا دائماً بيده، فليس من السهل أن يكون مكانه شخصٌ آخر ونمنحه ذات الثقة، فالحل في ذلك أنّ كل شخصٍ يتحمل ذاته، ويبحث عن حلول مشاكله بنفسه، ويسير على النهج الذي كان يراه". وأضاف "أبو سامي" أنّ المشكلة تكمن في كون البعض لا يدع للغير حرية كشف مشاكله والبحث عن حلّها، ولا يعطي أحداً الثقة عندما يغيب المهتم بأموره، وتكون مقولة "كلٍ يشيل نفسه" هي الدارجة؛ لأن الشخص لا يريد أن يحتمل أيّ عبء آخر. د.محمد العقيل الشخصية القيادية وأرجع "د.عبدالله بن ناصر السدحان" -وكيل مساعد بوزارة الشؤون الاجتماعية- عدم تقدير الذات إلى أنّه عندما يغيب القائد الأسري لأيّ سبب من الأسباب تحدث أزمة القيادة في الأسرة، بخاصةً حينما لا يكون هناك تهيئة لقائدٍ بديل، والتي غالباً ما تكون طبيعية، ولكن قد يحل أحد أفراد الأسرة في هذا المقام القيادي دونما إقتناع من بقية أفراد الأسرة لقدرات البديل؛ مما يجعل الثقة تهتز فيه من قبل باقي أفراد الأسرة وقد يفقد هو الثقة بنفسه، وعندما تهتز الثقة عند القائد البديل ينعكس ذلك على قراراته، وبالتالي تبدأ الإشكالات في تقدير الذات من البديل ويشعر بها من حوله لتتحول إلى عدم تقدير من الآخرين، ويستمر الأمر في التأثير على الأسرة بشكل عام، مضيفاً أنّ هنالك عوامل أخرى قد تؤثر في إقتناع أفراد الأسرة بالقائد الجديد مستمدة من المثل الشعبي "من عرفك صغير حقرك كبير". قيادة كبير السن وبيّن "د.السدحان" أنّ كبير السن في المجتمع السعودي يتمتع بمنزلة تقديرية عالية، وهذه الثقافة مستمدة من الدين الحنيف الذي حثّ في القرآن والسنة على احترام الكبير وتقديمه، سواءً أكان من الوالدين أو من الأقرباء وذوي الأرحام أو عموم المجتمع، والمصطفى-صلى الله عليه وسلم- قال "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمْ الصَّغِيرَ"، كما أنّ الأعراف والتقاليد تؤكد هذا الأمر وتجعل للمسن القيادة والمشورة حتى قالوا "من كان أكبر منك بيوم فهو أعرف منك بسنة"، وبذلك تتعزز ممارسة الكبير للقيادة لإرتباطها بتقدير مجتمعي محمود، وهو أمر ايجابي في المجتمع والأسرة بشرط ألاّ يكون تسلطياً. اهتزاز الأسرة وأكد "د.السدحان" على أنّ سبب اهتزاز الأسرة بغياب القائد هو الاعتماد الكلّي عليه في جميع القرارات، وهذا الاعتماد يكون سببه القائد أحيانا؛ حينما لا يترك مساحةً معقولة للقرارات الفردية والاختيار الشخصي لأفراد الأسرة، وقد يكون كذلك بسبب ذوبان شخصية أفراد الأسرة في شخصية القائد ، وأنّه يجب معرفة أنّ الاستقلالية في الرأي لا تعني عدم الاحترام، كما أنّ الاحترام لا يُلزم التبعية العمياء حتى لو كانت على خطأ. تقدير الأخ الأكبر وصنّف "د.محمد بن عبدالعزيز العقيل" -المستشار الأسري- الأسباب التي تجعل بعض أفراد الأسر لا يقدرون الأخ الأكبر الذي يحل مكان الأب الذي تعتمد عليه بالأسرة، وهي أسباب ترجع للأخ الأكبر؛ حيث إنَّه ربما إذا وجد نفسه في المركز الذي كان فيه والده استخدم الأسلوب السلطوي، وهذا الأسلوب ينفر الجميع منه ويبعدهم عنه وهو لا يشعر بذلك، فربما يحاول أن يحاكى أسلوب والده مع إخوته، وربما استخدم هذا الأسلوب بسبب مرحلته العمرية، وعندما يعود هذا الأخ الأكبر المتسلط ليصبح لطيفاً مع إخوته ويمازحهم محاولاً كسب ودهم يجدهم لا يقبلون ذلك منه، ويبدأ الخلاف من جديد، مبيناً أنّ الجزء الأكبر يقع على عاتق الأخ الأكبر كي يفرض احترامه على البقية، وعليه أن يُبدي حرصه وخوفه عليهم، ولابد أن يكون قدوة صالحة لهم، وأن لا يتعامل معهم بفوقية واستعلاء. التنشئة الاجتماعية ولفت "د.العقيل" إلى أنّ عملية التنشئة الاجتماعية لا ينبغي أن تكون أحادية الجانب، وأنّ كثيراً من مظاهر التوافق أو سوء التوافق تُعزى إلى نوع العلاقات السائدة في الأسرة وأثرها في تشكيل شخصية الفرد، وأنّ الذي يحدد مستوى التوافق هو نوع العلاقات الممارسة داخل الأسرة وهل هي علاقات تسلطية أم تشاركية أم فيها توتر، إضافةً إلى أسباب تعود إلى بقية أفراد الأسرة، لأنَّ احترام الإخوة الصغار وتقديرهم لأخيهم الأكبر عنصر مهم في استقرار الأسرة، وعامل مؤثر في حسن إدارة أمور الأسرة ومواجهة الصعاب، معتبراً عدم التقدير فجوه تؤدي إلى التفكك الأسري والاجتماعي؛ حيث إنّه إذا طالت فترات غياب الأب أو تكررت وضعفت شخصية الأم عند أفراد الأسرة، فإنَّ هذا السلوك يؤدي إلى فقدان الموّجِه، وتكون الأسرة سفينة بلا قائد، وستعاني الكثير قبل أن تصل إلى وجهتها الصحيحة، وسيتعرَّض أفرادها إلى الخوف والإضطراب، ومع استمرار الوقت تتسع هذه الفجوة وربما تدهورت العلاقات الأسرية بين أفراد الأسرة إلى حد المقاطعة. أنماط داخل الأسرة وعدّد "د.العقيل" أنماط تعلقٍ سائدة داخل الأسرة منها؛ التعلق الآمن وغير الآمن، والتعلق المتزن وغير المتزن، والتعلق التعايشي، والتعلق التشاركي "التكاملي"؛ القائم على توزيع الأدوار والمسؤوليات بين أفراد الأسرة، والتعلق التسلطي؛ أسلوب السيطرة والأوامر والطاعة العمياء، مبيناً أنّ النمط التكاملي هو الأفضل؛ حيث يكون فيه توزيع للمهام على الجميع، ويكون فيه الأفراد متشاركون لهم حقوق وعليهم واجبات ومسؤوليات. حلول عملية وطرح "د.العقيل" عدة حلول لتوسيع مدارك أفراد الأسرة بتقدير من يحل مكان الشخص الأكبر منها؛ أن لا يكون الأب ديكتاتورياً في معاملة زوجته أمام أبنائه، وألاّ يكون قاسياً في معاملة أولاده؛ فالشاب يميل ميلاً فطرياً لتقليد والده، إضافة إلى تأثير تبادل الاحترام بين الزوجين في تعويد الأخ الأكبر على اكتساب تلك الصفة بينه وبين إخوته، وكذلك تشجيع الأبناء على المشاركة الاجتماعية في مجالات الحياة، وحثهم على تعلّم صفة القيادة واكتساب مهارات تحمّل المسؤولية وإدارة الذات وكيفية حل المشكلات واتخاذ القرار، وغرس مفاهيم المسؤولية والمشاركة لدى أفراد الأسرة، والتعامل وفق مبدأ تبادل الأدوار، إضافة إلى التأكيد على خلق احترام كل فرد للبقية.