إن المجتمعات التقليدية تبقى مغتبطة بتفكيرها السائد اغتباطاً قوياً وعميقاً وراسخاً وتتوارث هذه الغبطة العميقة تلقائياً حتى يظهر من بين أبنائها من يكشف لها عن مكمن الخلل في تفكيرها، ويستنهضها بأن تتجاوز هذا الخلل وتفتح عقلها للنمو والتجدد فإن استجابت ايجابياً فإنها بذلك تكون قد وضعت قدمها على المسار الصحيح. يضمّ تاريخ الحضارات شواهد كثيرة كافية تؤكد أن نهوض أي مجتمع مشروط بتغيير طريقة تفكيره لكن ما من مجتمع يستطيع تلقائياً ان يفكر في هذا التغيير أو يسعى إليه فالمجتمع لا يتجاوز ذاته إلاّ بما يضاف إليه ويصدمه ويحركه من خارج ثقافته لكن المجتمع كالجسم الحي يرفض تلقائياً أي عنصر طارئ لذلك فإن الاستجابة الاجتماعية التلقائية هي الرفض الصارم والمقاومة العنيدة فكل ثقافة تقليدية لم تتمرس بالفكر النقدي تمرساً كافياً تبقى مشحونة بأوهام الامتياز والاكتفاء إضافة إلى أن كل ثقافة تقليدية لابد ان تكون ذات بنية مغلقة لا تقبل ما هو من خارجها إلاّ بزلزال فكري يفتحها عنوة كما حصل حين فتح الإسلام بنية الثقافة الوثنية بعد صراع مرير ومقاومة شرسة. إن المجتمعات التقليدية تبقى مغتبطة بتفكيرها السائد اغتباطاً قوياً وعميقاً وراسخاً وتتوارث هذه الغبطة العميقة تلقائياً حتى يظهر من بين أبنائها من يكشف لها عن مكمن الخلل في تفكيرها، ويستنهضها بأن تتجاوز هذا الخلل وتفتح عقلها للنمو والتجدد فإن استجابت ايجابياً فإنها بذلك تكون قد وضعت قدمها على المسار الصحيح لتتجاوز ما هي عليه إلى ما هو أفضل في عملية جدلية لا تتوقف فتظل تتفاعل هذه الجدلية لتضمن التطور في أوضاعها وتفكيرها وأساليب حياتها فيحصل التناوب بين حالة الانتظام والاستقرار، وحالة الإفاقة والانفصال النسبي المتكرر لتتجاوز الانتظام القائم إلى انتظام جديد في مستوى أرفع. إن الوضع التلقائي لأية ثقافة تقليدية ولأي مجتمع لم يتمرس بصراع الأفكار هو الاجترار والتكرار والدوران مع ذات المسارات فالصعود لا يتحقق تلقائياً أبداً وإنما يتطلب طاقة متجددة من النقد، والنقد المضاد فلابد ان يتحقق الانتظام من أجل الاستقرار والإنتاج كما أنه لابد ان يتحقق الحفز الدائم والإثارة المتجددة من أجل الابتكار والارتقاء والإبداع والتجاوز.. إنه تفاعل جدلي لا نهاية له فتبقى الأمة في حالة جدل متجدد بين الانتظام والاقتحام، بين الركود والمزيد من النهوض وبذلك يطرد نمو الازدهار ولابد ان تستمر عملية الجدل وصراع الأفكار لئلا يحصل الركود والتراجع فنهضة الفكر هي الفاعل المحرك لكل قطاعات النشاط الجاد والأداء النافع ولا أمل لأي مجتمع بالنهوض ولا المحافظة على المتحقق منه ما لم يتوفر له هذا الشرط المبدئي. إن انتظام حركة أي مجتمع مع نفس المسارات الدائرية العتيقة والعميقة هو انتظام تلقائي ولايمكن الانفكاك من هذه التلقائية الآسرة والضاغطة المستحكمة إلاّ بوعي جديد تستنفره ريادة فكرية خارقة ويستجيب لها المجتمع استجابة ايجابية كافية. إن جموع الناس تبقى منتظمة ومأسورة تلقائياً بشبكة من المسارات العميقة المتوارثة التي تظل سائدة مهما كان المضمون، ومهما كانت طريقة التفكير مضادة لأبسط قواعد المنهج العلمي ومهما تلقى أفراد المجتمع المنغلق من تعليم مدرسي وأكاديمي يضعه المجتمع لتكريس الواقع وتمجيد منطلقاته أو ربما تقديسها وتحريم الاقتراب من نقدها أو محاولة تحليلها ولكن فرداً واحداً خارقاً من بين ملايين الناس المنتظمين الغافلين المغتبطين بما هم عليه من أفكار وتصورات واهتمامات يستيقظ من السبات العام المنتظم فيكتشف مكمن الخلل ويروح يوقظ الناس ويستنفر عقولهم فإن استجابوا للريادة الفكرية استجابة إيجابية كافية وهبوا للبحث والتحقق في مجال المعرفة وبادروا للعمل والإنتاج في مجالات الحياة كما هي حال المجتمعات منذ عصر النهضة تحقق لهم التقدم وانتظمت لهم عوامل الازدهار. وهنا يظهر الفرق بين قابليات الثقافات المختلفة وهو فرقٌ نوعي فاصل وحاسم فبعض الثقافات تستجيب للريادات الفكرية استجابات سلبية قامعة فتواجه الريادة بالرفض العنيد القامع وتقابلها بالهجوم العنيف المخيف كما تقابلها بالتسفيه الكاسح والنفي المطلق، والاستئصال الماحق وتواصل تنشئة الأجيال ضدها كما حصل في ثقافتنا العربية ضد ريادة ابن رشد والكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وابن النفيس والرازي وغيرهم من رواد الفكر والعلم في تاريخنا القديم وهو الرفض القامع نفسه الذي واجهه المفكرون المعاصرون منذ أن فوجئنا باقتحام مصر بالغزو الفرنسي بقيادة نابليون قبل أكثر من قرنين. ولكن هناك ثقافات أخرى تتعامل مع الريادات الفكرية بإيجابية فاعلة فتجني أعظم الثمار حتى ولو جاءت الاستجابة الايجابية بعد تلكؤ وممانعة لكنها في النهاية تستجيب استجابة ايجابية كافية فتعيد النظر في أوضاعها وتختبر طريقة تفكيرها وتفحص السائد من أفكارها، وتحلل ما هو مستقر من تصوراتها وتراجع منظومة قيمها وتغير الكثير من اهتماماتها وبذلك تزدهر كما تكون قادرة على تحقيق المزيد من الازدهار باطراد في العلم والعمل والأوضاع والنظم والمؤسسات، وتنتقل من حالة الدوران الأفقي العقيم أو المتقهقهر إلى مستوى الصعود الدائم والإبداع المتجدد والابتكار الباهر فهي تواصل التقدم في كل المجالات وتحقق الانتصار على كل الجبهات. هكذا تتابَع ظهور الريادات الخارقة في أوروبا بعد كمون الفكر اليوناني في العصور المظلمة فأخذت في اليقظة في مختلف المجالات ابتداء من دانتي ورجرز بيكون وأبيلارد ومروراً في بترارك وبوكاتشيو ودافنشي وميكال أنجلو ومكيافيللي وجوتنبرج وكولومبس، ووصولاً إلى الزلزال الفكري الذي أحدثه كوبرنيكوس وجاليليو وبرونو وحدوث انشقاق كبير في بناء الكنيسة الكاثوليكية بواسطة مارتن لوثر ثم كلفن وظهور الاتجاه الإنساني عند ايراسموس ومفكرين آخرين وبزوغ فن المسرح الحديث بواسطة شكسبير وثلة من المبدعين كما جرى تأسيس الفن الروائي بواسطة سرفانتس ثم ظهر فرانسيس بيكون في انجلترا وديكارت في فرنسا وبهما تأسس الفكر الحديث وحدثت النقلة النوعية في التفكير الأوروبي ليس فقط على مستوى الريادات الخارقة وإنما على مستوى الاستجابة العامة المزلزلة ثم تأسست مسيرة العلم الحديث في وثبة فكرية هائلة بواسطة اسحق نيوتن ولكن لولا قابلية الثقافة الأوروبية للتجدد والتغير والتطور لمرت كل هذه الريادات من غير أن تترك أثراً ايجابياً فالاستجابة هي الجانب الأهم الأصعب في العملية الحضارية. في ريادة فرانسيس بيكون الفكرية الباهرة نرى كيف أن العقل المشرق الجياش لا يحده تخصص، ولا يستغرقه مجال ولا يستنفد طاقته فرع من فروع المعرفة ولايستهلك اهتمامه ويستغرق جهده في وظيفة محدودة التأثير وإنما هو إشعاع باهر في كل الاتجاهات إنه زلزال مثير وفكر موقظ . إن التحاق بيكون بالدراسة الجامعية ملأ نفسه بالنفور والملل بدلاً من ان يجذبه ويستهويه لقد هيأته هذه المعاناة المباشرة في الجو الجامعي الثقيل الممل للثورة ضد التفكير المدرسي والأكاديمي الرتيب الذي يميت الدهشة وينيم العقل ويجمد الرغبة في المعرفة .. لقد التحق بجامعة كمبردج وهو في الثانية عشرة من عمره لكنه ما كاد ينتظم في الدراسة الجامعية حتى حاصره الملل وأضجرته الرتابة واستولى عليه الضيق من استظهار مالا يسيغه عقله ولا تتقبله مواهبه ويتلاءم مع مستوى تفكيره، ولا يحقق الحد الأدنى من طموحه لقد اكتشف أثناء دراسته في الجامعة أن الدراسة الجامعية تؤدي إلى إغلاق العقول بدلاً من ان تفتحها وتجمد الطاقات الإبداعية بدلاً من ان تثيرها، وتطفئ الدهشة بدلاً من ان تشعلها فهي بدلاً من ان تستثير اهتمام الدارسين ليتحركوا نحو الاختراق والتجاوز والانطلاق وبدلاً من استنفار عقولهم نحو الاكتشاف والإبداع والتجديد إلاّ أنها في واقع الحال تنحدر بمستوى تفكيرهم فتكبلهم بالقيود وتربيهم على ترديد التليد ومحاربة الجديد وإعادة إنتاج ما هو جاهز واجترار ما هو مكرر، إنها توهمهم بأنهم محظوظون بوجودهم في بيئة تتصف بالتمام والكمال والامتياز المطلق فتملؤهم بأوهام الاكتفاء وتكرس سلطة الأموات وتعطل عقول الأحياء. لقد عايش فرانسيس بيكون جمود التعليم واجترار الأفكار والتصورات والمفاهيم والأساليب والبؤس الذهني والعاطفي الذي يتبرمج به الدارسون فاستثاره ذلك واستفزه في الاتجاه المعاكس فصمم على أن يثور على هذا الواقع التعليمي البائس وان يعمل على تحريك هذا الجمود وان يحاول فتح هذه البنية المغلقة وأن يجتهد في خلخلة هذا الركام وان يستعيد للأحياء حقهم في التفكير المبدع والتجديد الواثق والقطيعة الواعية والإفلات من الأسر المزمن. إن هذا الرائد الخارق الذي ثار بعزم وتصميم على النسق التعليمي السائد الجامد الذي عايشه وعانى منه قد وجد في زمنه وفي كل العصور التالية الاستجابة الاجتماعية الكافية التي حولت مسار العلم والتعليم والعمل والأهداف فغيّرت الاهتمامات وبدلت الموضوعات وطورت الأساليب وأبدعت في المناهج فارتقت بالمعرفة من الترديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع ومن الانغماس في طوفان الألفاظ والتسميات إلى الاندفاع للعمل والكشف والمغامرة .. لقد قوبل جهده بالكثير من الاطراء ومازال الباحثون يكتبون عنه ويقتدون به ويشيدون بأفكاره فصدرت عنه مئات الكتب في كل اللغات وآلاف المقالات والفصول والبحوث، لقد تناول الدارسون والباحثون والمؤرخون تفاصيل حياته وأفكاره الثائرة كما أبرزوا النتائج التي تمخضت عنها هذه الأفكار الخلاقة. لقد كان فرانسيس بيكون رائداً ملهماً ولكن هذا الرائد الباهر لو ظهر في مجتمع مغلق الثقافة وينفعل تلقائياً للطارئ انفعال الرفض البليد والإعراض العنيد لمرت ريادته من غير ان تترك أثراً ايجابياً بل ربما كانت نتائجها مزيداً من القيود والجمود كرد فعل تلقائي على محاولات الانفتاح والإبداع والتغيير ولكن الاستجابة الايجابية لجهوده رغم بطئها وتلكؤها قد أمدّت المجتمع الإنجليزي والمجتمعات الأوروبية ثم العالم كله برؤية جديدة تغيرت بها الأفكار والمناهج والتصورات والمفاهيم والاتجاهات والممارسات والأوضاع فلقد قوبلت هذه الريادة الفكرية الخارقة باستجابة اجتماعية ايجابية كافية وبذلك تحقق التكامل العضوي الضروري بين الريادة الفكرية الخارقة، والاستجابة الاجتماعية الايجابية الكافية وهما معاً شرطان ضروريان لتحقيق التغيير والارتقاء. هكذا تكون الريادة فردية خارقة للمألوف ومعارضة للسائد وهكذا لابد ان تكون الاستجابة إيجابية وعامة وكافية فبيكون كان رائداً خارقاً لأنه بدلاً من ان يتبرمج بالجو الدراسي الرتيب والكئيب ثار عليه فأسهم في تغيير الثقافة وفي إعادة تكوينها بعناصر جديدة.. لقد ثار عليها بدلاً من ان يستسلم لها وفكك بنيتها بدلاً من ان يتقولب بها وكما يؤكد الدكتور فؤاد زكريا بأن نفور فرانسيس بيكون من الجو الجامعي الكئيب: «كان له دوره الحاسم في تحديد اتجاهه العقلي في المستقبل: ذلك لأنه سرعان ما سئم المناهج الدراسية العتيقة التي كانت سائدة في الجامعة والتي كانت مركزة حول منطق أرسطو وميتافيزيقاه ولاهوت توما الأكويني واتضح له منذ البداية ان الفلسفة التي تلقاها إنما هي فلسفة ألفاظ عقيمة لاتفيد من الناحية العملية شيئاً ولاتقدم أية معونة للإنسان في كفاحه الأساسي من أجل السيطرة على الطبيعة والنهوض بحياته وهكذا تحدد في ذهنه الهدف الذي سيتجه إلى تحقيقه طوال حياته وهو القضاء على سلطة القدماء والمدرسين والدعوة إلى فلسفة مثمرة من الناحية العملية» . لقد صمم منذ بداية معايشته للبيئة الجامعية المتكلسة المتحجرة بأن يقدم تصوراً جديداً للمنهج العلمي وللدراسة الجامعية وللتعامل مع التاريخ ومع الحاضر والبيئة والمستقبل لقد أدرك ان طاقات هائلة تختبئ في الأشياء وأن العلم وحده هو السبيل إلى اكتشاف هذه الطاقات العظيمة المخبوءة واستثمارها لخير الإنسانية جمعاء، كما صمم على ان يؤسس مساراً جديداً للمعرفة يقوم على الاحتكاك المباشر بالأشياء وتدوين الملاحظات وإجراء المقارنات واعتماد منهج الاستقراء والاهتمام بالكشف والتجريب وحشد النفوس بأمل زاخر بالتطورات والكف عن الاستغراق في الماضي والاندفاع نحو الابتكار والاختراع والإنتاج لتغيير طبيعة الحياة الإنسانية بعد تغيير منابع المعرفة ووسائل تحصيلها. كان طموحه عظيماً وكان ذهنه حافلاً بالمشاريع العلمية والعملية التي يأمل من ورائها ان تتغير بها معارف الناس وان ترتقي بها حياتهم وان تتطور وسائلهم وان تتبدل اهتماماتهم وان تفتح لهم آفاق المغامرة والاختراع والاكتشاف والعمل والإنتاج.. كان رائداً عظيماً وكان يعرف انه يحمل أفكاراً ريادية خارقة غير انه كان يعلم ان نتائج الريادة الخارقة مرتهنة بالاستجابة الايجابية الكافية وكان يدرك ان الاستجابة سوف تتعثر أو تتأخر إن لم تتبنّها السلطة الحاكمة. لقد اقترح مشاريع ضخمة لإحداث النقلة النوعية التي يتمناها للمجتمع وكان يدرك انه لن يتمكن من تنفيذ هذه المشاريع إلاّ إذا اقتنع بها أصحاب السلطة لتحويل أفكاره الخارقة إلى واقع حي يراه الناس ويتعايشون معه ويأخذون الإلهام منه. لقد وضع مخططاً شاملاً ومفصلاً للارتقاء بكافة قطاعات الحياة تتغير به كل جوانب العلم والعمل والاهتمامات والطموحات ومنظومة القيم والآمال واتجاهات النشاط يحمل عنوان (الإحياء العظيم) وعن ذلك يقول فولتون اندرسون: (كان على استعداد لأن يغامر من أجل مشروع علمي من شأنه حتماً ان يحدث انقلاباً) . لقد قرأ التاريخ فاحصاً وباحثاً عن مكمن الخلل في الحياة البشرية وتأمل في الواقع ليتعرف على القيود التي تكبل حركة المجتمعات فتضيع بسببها فرصٌ عظيمة وتتجمد طاقات هائلة فتتراكم المعوقات وتسود الرتابة ويستمر الدوران مع ذات المسارات. لقد لاحظ أن أكبر معوقات التقدم الحضاري هو تقديس الأموات واحتقار الأحياء وتعظيم العلماء القدماء والاستهانة بقدرات المبدعين اللاحقين بعكس ما يجب أن يكون كما لاحظ ان طبيعة العقل البشري تجعله متهيئاً تلقائياً للتلبس بالأوهام التي تكبله وتقعده وتعميه وتغيّب قدراته الكامنة وتعطل قابلياته فهب يستثير في الناس حمية العقل ويهيب بهم لكي لا يبقوا إمعات يرددون كلام الأموات من غير تحليل ولا فحص ولا إعمال للعقل.. لقد هب يستنفر المجتمع لينتقل من ثقافة الكلام إلى ثقافة العمل ومن الانشغال بالثقافة الاسمية إلى الانشغال بالأشياء ذاتها لاستنطاقها عن ماهياتها وما تكنه من أسرار وما تخبئه من طاقات من أجل خير الإنسانية وتحقيق الرفاه والسعادة للجميع..