تقول المغنية المغربية الاستثنائية كريمة صقلي "الموسيقى هي حوار قبل كل شيء، إذ تختلف من جيل لآخر، ومن لغة إلى أخرى وكذلك من ثقافة إلى أخرى، لكن الهدف الوحيد هو تحقيق التواصل". وإذا اتخذنا من عنصري الحوهبار والتواصل باعتبارهما متعلقين ببعضيهما سببياً أو طردياً فإن صقلي نفسها تعبر عن حالة من الحوار مع أرشيف غناء القرن العشرين العربي. إذ تتجه نحو مختارات غنائية مكرسة ذات مستوى عال، لمحمد عبدالوهاب (بالطبع من ألحانه) ومن ألحان محمد القصبجي تختار أعمالاً سجلت بحناجر أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد. وتعيد التواصل معهما بطريقتها الأدائية الفاخرة التي لا تسلب القيمة ولا الجمالية وإنما تضفي في أدائها المعاصر تلك الحالة التي تجود بما لديها عبر ذاكرة معتمدة على كفاءة صوتية وممكنات أدائية فارقة. تحاور صقلي هذه الأعمال المختارة من أرشيف الغناء العربي المتمثل في الحداثة الغنائية حيث بلغت ذراها بين الثلاثينيات والأربعينيات، ونماذجها تصدق على ذلك، فمن يا ما أرق النسيم إلى قلبي دليلي. وتفتح هذا التواصل بين صوتها ومقدراته نحو آذان المستمعين لكأن العمل بات من أعمالها، وهي لا تبخل بأعمالها إذ أنجزت لها أعمال خاصة بها من الملحن سعيد شرايبي وعزيز حسني ونصير شمة ونعمان الحلو، فهي تضيف إلى منجز المغنية السورية ربا الجمال ذات البعد رغم إخلاص الأخيرة إلى المدرسة التقليدية في أصولها المحافظة عند ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد فإن صقلي تنجاز إلى محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب. تحمل كريمة صقلي في صوتها ألياف نغمية تختصر تاريح حنجرة انطلقت من شرق مسحتها مياه البحر المتوسط فأنضجتها على الأطلسي. إنها تحمل حضارة الغناء العربي لألف عام. تنطوي على محددات نغمية وخلايا وأجناس تتمثل في النوع الصوتي الخفيض، وفي العرب الصقيلة، والصمت الوافر. من أين أتت هذه الكريمة ؟! في كل ما تغني لا تذكرك إلا بحنجرتها . كأنما تقول الأغنية لها. من بين ما أنجزته كريمة مع الملحن سعيد شرايبي مجموعة مختارة من الأشعار الصوفية لأبي الفيض المصري ومحمد الحراق ولابن عربي لابن الضحاك، وللشاعرة عائشة الباعونية ( 1460-1516) إذ اختارت من ديوانها فيض الفضل وجمع الشمل" الضخم المنسي، الذي لم يحقق إلا مؤخراً نصاً مكوناً من ثلاثة أبيات لتشدو به ارتجالاً: "هَذِهِ أَنوارُ لَيلى قَد بَدَت فَلِسَلبِ العَقلِ يا صاحي نهي فَالفَتى ما سَلبته جُملة لا الَّذي تَسلبه شَيئاً فتي وَإِذا الحُسن بَدا فَاِسجُد لَهُ فَسُجودُ الشُّكرِ فَرضٌ يا أَخي " حققت عبر هذا الارتجال جودة عالية من الأداء الوجداني في تدرج نغمي محكم في تلويناته وزخارفه الصوتية لتجسد جمالية الشعر العربي في صورته الصوفية حيث يرمز للكعبة المشرفة ب"ليلى". ينتشر هذا التسجيل في اليوتيوب من حفلة ديترويت ميتشجن عام 2009 بينما سبق أن أدته عام 2000 في مهرجان فاس للموسيقى العريقة الذي تنظمه جمعية فاس سايس، وتوالى في أكثر من محفل غنائي كاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية تحت عنوان (النساء تغني) 2008، ومهرجان «أنغام من الشرق» هيئة أبوظبي للثقافة والتراث 2010، ومهرجان الموسيقى والغناء الصوفي دورة القدس 2011. كريمة صقلي صوت يطوف بأنواره بحار النغم العربي الذي استعمر بانعدام الذوق والأخلاق والضمير لتعرية الثقافة العربية من الاعتزاز والفخر بمواهبها الطبيعية.