في جامعة الملك عبدالعزيز نوقشت رسالة للماجستير بعنوان "اللون في الرواية السعودية" وطبع في كتاب على نفقة وزارة الثقافة والإعلام وقت انعقاد مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث في 14-17/12/2009م تذكر الأستاذة مريم إبراهيم غبّان في الفصل الثالث المعنون ب( بنية التناص اللوني) في القسم الثاني منه: فضاءات التناص اللوني في الرواية السعودية بالفقرة (ج) تحت عنوان (متناصات من التراث الأدبي الشعبي) إلى أن العلاقة بين النص الروائي والمتناص التراثي تقوم إما على أساس المطابقة أو الانحراف عن الدلالة القارة، حيث يطابق النص الروائي المتخيّل التراثي في دلالته ويستمد منه الكثير من صوره، أو يقلّب النص دلالة اللون عن الدلالة المعهودة في المتخيّل الشعبي، ليبتكر دلالات جديدة تناقض دلالات المتخيّل أو تتجاوزها، وأن من الروائيين السعوديين الذين جاءت نصوصهم متفاعلة مع الأدب الشعبي الكاتبة رجاء عالم، ففي كثير من الأحيان تلجأ هذه الكاتبة إلى الموروث الشعبي، لتكون صورة رامزة للواقع بهمومه السياسية والاجتماعية حيث تخبأ في لوحة التراث فكرها ورأيها، ولمعرفة ذلك يمكن أن نستشهد بنموذج من رواية خاتم، ولكن قبل الحديث عن ذلك نقف على عتبات النص التي تعتبر بشكل أو بآخر مفاتيح له، فقد أشرنا من قبل إلى أن الكاتبة ألحت على بنية الترميز التي حدّدت الفواصل بين عالم الذكر (البياض) وعالم الأنثى (السواد) وموقع خاتم بين هذين العالمين. وتذكر غبّان أن ما يعنينا هنا هو استثمار التراث الشعبي في تدعيم هذا الترميز، ولتوضيح ذلك قامت بإيجاز الحدث التالي لتوضيح فكرة التناص للقارئ، وكان هذا الحدث ليلة النصف من شعبان حين طلب هلال خاتم بإلحاح وتوغّل بها في المخلوان المعتّم، وكشف عن سواد بطنه وقال لها اسقيني، لم تعرف ماذا تسقي، راحت للزمزمة ورجعت بحفنة ماء وراقبتها وهي تفور وتنتقل لكامل جسد هلال، موجات سواد منه لشهقة المخلوان تصاعدت، الصوت الذي طلع منها (خاتم) أفزعها وحينها التصقت بخشب الروشن متلمّسة مهرباً لم يلحقها وقام إلى خزانة الطيب ومد يده لتولات العنبر، وفي تأمل صفوف الطيب البديعة فارق خاتم فزعها يده من عتم المكان ، امتدت برشاقة لقارورة عنبر أسود من قلب القلب جاء بها صوبها، كلما تقدّمت انشق لذهب غطائها حجاب بصدر خاتم والمكان ، جل الذهب ، فوشوشتها أغنيته : (يلقّم السكر ويلقّم العنبر ..) لم تعرف كيف كان مذاق العنبر ، مذاقه حرٌّ ، وكيف تصف مذاق الحرّ؟ تشرح غبّان أن الموجود بين القوسين مناص مجاور لبنية النص السردي ، وهذا المناص هو في الأصل مقطع من أغنية شعبية يردّدها الأطفال في الحجاز ، والنص الأصلي هو: "ذبوح يا ذبوح كلب العرب مذبوح ، أمي تبكي وتنوح ، تقول: يا طالع الشجرة جبلي معك بقرة تحلب وتسقيني بالملعقة الصيني ، والملعقة انكسرت يامين يداويني، دخلت بيت الله لقيت حمام الله يلقم السكر ويلقم العنبر، ياليتني ذقته، حتى النبي زرته" أ.ه وتعلّق غبّان أنه على الرغم من احتفاظ الكاتبة بألفاظ الأغنية الشعبية، إلا أنها حوّرت الدلالة اللونية بشكل يتناسب مع بنية الترميز التي يحملها نصّها الروائي بين طيّاته، أي أن هذا التفاعل مع الأغنية الشعبية جاء باقتباسها حرفياً بإيقاعها ولغتها الشعبية دون تحوير أو معارضة في الشكل، وتذكر أن الحاصل هو أن صدى هذه الأغنية الشعبية قديم احتفظت بها ذاكرة الكاتبة، لكنها لا تستدعي ما تراكم عن السكّر والعنبر في الدلالة الشعبية، وإنما تؤسس لدلالة جديدة بتفاعل النص الشعبي مع النص الموازي، لأن تساءل السارد على لسان خاتم عن طعم العنبر، ثم الإشارة إلى أن طعمه حرٌّ يحيل إلى الحقيقة المخفية عن هلال ، وهي أن خاتم ذكر مثله لا يعرف طعم العنبر! لقد تراءى بياض السكّر في النص كمذاق لمتعة جسدية فسيولوجية للذكر، ولهذا جاءت صورة الحمام وهو يطعم السكّر والعنبر على لسان طفلين يعبثان ، لتجاور لعبة الألوان التي ابتدعتها الكاتبة، وبذلك يتنقل القارئ من التناقض في بياض السكّر وسواد العنبر إلى التوافق، فخاتم وهلال كلهما يطعمان السكّر. رجاء عالم وتقول مريم غبّان إلى أن رجاء عالم: "لم تقرأ النص الشعبي قراءة سطحية إنما قرأته قراءة عميقة ، تحمل ملامح التجربة التي تعبر عنها" أ.ه وتستشهد بأن ذلك يتجلى في قولها: "يوم قبضت عليهما شارة يطعمان السكّر والعنبر وينصتان في ماء البركة ، انقلبت كل الأغاني، لا تعرف خاتم هل انتقل الخبر لأبيها أم لأمها سكينة، لكن غيرة بحجم جبل هاجت في الدار" أ.ه وتذكر غبّان أن عالم تعمد إلى إخضاع الدلالة اللونية في سواد العنبر وبياض السكّر لرؤيتها الذاتية، ليكون في هذا المناص تعبيراً عن تفاعل الإنتاج الروائي مع الأدب الشعبي، وأن هذا يعني أن التجارب القديمة يمكن أن تعاد إلى الحياة من خلال أسلوب معيّن، يجعل من النصوص المستدعاة تعبيراً عن هموم وقضايا معاصرة، وأنه يمكن أن نتأمل هذا التفاعل في قول الكاتبة في الرواية ذاتها، حين يصف السارد قلب خاتم وهي مع هلال كأنه طير "مع الخطّار جناحه فضة وقلبه نار"، والمناص الذي بين القوسين هو في الأساس لغز شعبي يحيل إلى الرصاصة، والنص الأصلي هو: "طير طار مع الخطّار جناحه سود وقلبه نار" ، وأن رجاء عالم قد استعارت اللفظ الدال على الرصاصة للقلب بجامع الاضطراب والتوهّج في كل منهما ، وأنه من الواضع أن فكرة التناص قائمة على أساس التناسب بين الحركة واللون ، إلا أن عالم استبدلت الأسود بالفضّي ، وتتساءل غبّان:" ولا أعلم لذلك تفسيراً غير أن الكاتبة تسعى إلى تعزيز انتماء خاتم لعالم البياض" أ.ه وتذكر مريم غبّان عن كاتب آخر هو الروائي عبده خال الذي استطاع أن يوائم بين التجربة المعاشة والتجربة الماضية في أكثر من موضع، حيث يتسع سرده لتوظيف اللفظة الشعبية والمثل الشعبي والحكاية الشعبية وغير ذلك وأنه بمحاولة رصد أشكال هذا التناص في سرده يمكن أن ندلل على وجود هذه الظاهرة ببعض الشواهد، وذلك مثل قوله في رواية مدن تأكل العشب:" ياما جاب الغراب لأمه" ، إذ تعلّق غبّان على هذا المثل بأنه جاء مضمناً بلفظه ودلالاته وموضوعاً بين شولتين للسخرية والنقد، وقد كان هذا التوجّه للتراث الشعبي لصالح النصّ دون الوقوع في شرك النقل المجاني، فالكاتب وإن كان يخاطب مخزوناً مشتركاً بين المرسل والمتلقي، إلا أن ألفاظ المتناص قد انقادت إليه فبدا أن هذا الوصف ضرورياً للوصول إلى حقيقة الرجل الذي تعلّق به يحيى منذ طفولته، وإلى جانب إعادة الحياة إلى شخصية الغراب المتمثلة في طاهر والوصّابي الذي تعلّق بله يحيى في المثل الأول، نجد أنفسنا أمام متناص له بنية مستقلّة في الرواية ذاتها، ف "الغراب الذي خطف يمامة" هو زوج حسينة أخت يحيى، ومن حيث المضمون المكتنز في الدلالة اللونية، نجد تشابهاً كبيراً بين هذا المتناص والمعتقد الشعبي الذي يستمد من سواد الغراب، وله دلالات عدّة، وهي في المثل الأول تعني المماثلة في الخيبة، وفي الثاني تعني المماثلة في القبح بين الغراب وزوج حسينة، ويبدو أن كلا الماثلين يؤكدان هذه الدلالة القارة في سواد الغراب مع ربطها بالسياق العام للنص، فجاء هذان المتناصان من قبيل الاستعارة التمثيلية من أجل إيضاح التعالق المفترض بين النصّين الغائب والحاضر، وبهذا تنفتح الذاكرة القرائية على الذاكرة الشعبية، لترسم ملامح الشخصية المتحدث عنها بتوجيه ذاكرة القارئ إلى المثل الشعبي، وهذا يعني أن ضربه للمثل هو مرور عقلي من المحسوس إلى غير المحسوس ومن المرئي إلى غير المرئي عبر مسار ذهني تتحايث في المقومات المعرفية، أخيراً تقول غبّان إن تعلق كل من النصين بالسياق الروائي يجسّد ثيمة توارثتها الأجيال، فالرجل الذي يحضر ما لا ينفع أو يكفي فاشل ويقال له "ياما جاب الغراب لأمه"، والرجل الذي يحاكي قبح الغراب يتزوج فتاة تعرف جمالها، يقال له "غراب زوجوه أحلى يمامه"، ويلاحظ أن المتناصين السابقين تم التعامل معهما كبنية نصّية مستقلّة ومتكاملة ، ولهذا يمكن الاستغناء عنها، على اعتبار أنها بنية طارئة، لكن لها وظيفة معيّنة يجب كشفها وتحليلها، مادامت قد أتت في سياق نصّي محدّد ومتفاعلات مع بنية نصّية معيّنة، وإذا تركنا الحديث عن المثل الشعبي وانتقلنا إلى الحكاية الشعبية ، لا نجد أفضل من حكاية مرحمة في رواية الموت يمر من هنا لنمثّل بها، فحكاية مرحمة، على حسب ماورد في إجابة المؤلف حين سألته الباحثة، هي من الحكايات الشعبية التي تتناقل في جنوب المملكة العربية السعودية. تشير مريم غبّان أن مثل هذه الحكاية ربما هي بقايا الفكر العربي تجاه السواد فهذه الحكاية بالغة الدلالة على اختيار اللون الأبيض للطهر والأسود للدنس، وتذكر أن حكاية مرحمة أخذت شكل مناص له مقاطع متعددة متفرقة في الرواية، وهذه المتناصات اختلطت فيها الأسطورة بالحكاية الشعبية، وقد أدرجت ضمن التناص الشعبي لأن التناص اللوني في الجانب الشعبي يخدم هذه الدراسة بينما لم يتم التعرض للأبعاد الأسطورية في هذا النص لأنه لا يخدم الدراسة هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن جميع هذه المتناصات وردت كبنية نصية مستقلة مضمنة في النص الموازي. اللون في الرواية السعودية،