كنتُ وعدت القارئ الكريم بمواصلة قراءتي لكتيّب الأديب الدكتور محمد المسعود (المجالس القضائية لفضيلة الشيخ صالح الدرويش) وتتبع ِ استخراج ما حواه من جمال وإبداع ، وما زلتُ ملتزماً الوفابذلك ، غير أني أستأذن في التوقف مع موضوع تبرز أهميته في توقيته ، كونه يعتبر موضوع الساعة في الشأن القضائي ، ألا وهو إعفاء فضيلة الشيخ صالح بن حميد من منصبه بناء على طلبه . لأنه منذ استقالة الشيخ من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء بدأت الظنون والشائعات والتخمينات تسري في أوساط المهتمين بالشأن القضائي ، عبر تداول أسماء من يظنون أو يحسبون تعيينهم في هذا المنصب شديد الحساسية . أما أنا فلا أنجذب للخوض في هذه التوقعات ، لأنها ليست سوى رجم بالغيب ، وظن لا يغني من الحق شيئا . إن لنا أملاً كبيراً في أن تكون رئاسة مجلس القضاء الأعلى القادمة على مستوى تطلعات الملك الصالح المصلح « حفظه الله « وأن تكون متصورة لحقيقة الإشكالات التي يعاني منها القضاء ، والإصلاحات التي يحتاجها حاجة ضرورية لا كمالية وأياً كان من يتم تعيينه في هذا المنصب فإن الشيء الذي لا يخالجني فيه شك أبداً أن التعيين ليس نهاية المطاف ، وأن سياسة خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " التي امتاز بها عهده الميمون حتى صارت علامة فارقة في تاريخ الإدارة في الدولة ، أنه " أيده الله " لا يتردد أبداً في عزل أو إقالة كل من بان خطؤه وانكشف تقصيره ، أو ثبت أن استمراره في المنصب الوزاري لا يخدم المصلحة العامة ولا يحقق أهداف الوزارة دون النظر إلى انتهاء مدته الرسمية . وقد أثبتت الوقائع المتعددة هذا المبدأ الكريم . كما أنه ظهر بوضوح في كل التعيينات والإعفاءات إحساس القيادة بمشاعر المواطنين ، وإدراكها لما يحتاجون إليه ، وتناغمها الدائم مع تقييمهم للوزير والمسؤول رضاً أو سخطاً . وفي ميدان القضاء خصوصاً لم يكن أداء الأجهزة القضائية متوافقاً مع تطلعات القيادة والشعب ، لما شهدته تلك الأجهزة من إشكالات لم تعد تخفى على أحد فضلاً عن المتخصصين من منسوبيها وغيرهم ، خاصة على مستوى العلاقة بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء التي شهدت ْ في المرحلة السابقة تجاذبات لا محل لها ، حتى تصدى لها المقام السامي الكريم بأمر سام فصلفي هذا التنازع وحدد اختصاصات كل منهما تحديداً كان الأولى أن يتولاه المجلس والوزارة بالتراضي بينهما والوفاق المنسجم مع نصوص النظام الواضحة . وإن لنا أملاً كبيراً في أن تكون رئاسة مجلس القضاء الأعلى القادمة على مستوى تطلعات الملك الصالح المصلح " حفظه الله " وأن تكون متصورة لحقيقة الإشكالات التي يعاني منها القضاء ، والإصلاحات التي يحتاجها حاجة ضرورية لا كمالية . وفي هذا السياق أتطلع على وجه الخصوص إلى أن تراعي رئاسة المجلس ما يلي : أولاً : أن تحرص على السير بالمجلس وفق نص المادة السادسة من نظام القضاء التي حددت بوضوح اختصاصات مجلس القضاء ، وتلك الاختصاصات ما يزال بعضها لم يُنجز إلى الآن مع أهميته ، ولعل أبرزها لائحة الشؤون الوظيفية للقضاة وحقوقهم التي تأخر كثيراً إنجازها ورفعها للمقام السامي الكريم للبت فيها . ومن ذلك أيضاً ما ورد في المادة الثامنة من أنه يجب على المجلس إصدار لائحة داخلية تنظم أعماله ومهماته . لأن من المآخذ على أداء المجلس الحالي أنه استقطب قيادات تنفيذية عملت على نقل إدارات تنفيذية من الوزارة للمجلس وفقاً لرؤيتها السابقة وقناعاتها القديمة حين عملها في الوزارة في ظل النظام القديم ، إلى أن صدر الأمر الملكي الكريم بترتيب العلاقة بين الجهتين ، وتحديد اختصاصات كل منهما ثانياً : يتطلع الجميع إلى إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بأن تكون الشخصية القادمة في رئاسة المجلس قريبة من القضاة ؛ في فهمها وخبرتها ، وفي قبول القضاة لها وتوافقهم معها ، وذلك من خلال سيرة الشخص المرشح السابقة ، وتتبع علاقته بالقضاة ، وتفهمه التام لطبيعة عملهم ، وحقيقة ما يواجهونه من إشكالات ، ولا يكفي ذلك أيضاً عن ضرورة إدراك الرئاسة الجديدة ومعرفتها للخطاب المناسب في الشأن القضائي ، لأنه ليس كل من كان له خبرة قضائية سابقة قادراً على الإلمام بكل هذه الجوانب الضرورية التي لا يستقيم أمر القضاء بدونها . فقد علمتنا التجارب أن بعض القيادات القضائية أحدثت شرخاً في نفوس القضاة أصبح من جاء بعدها مشغولاً بمداواته ومعالجة آثاره ، وذلك عبر اللغة التحريضية ضد القضاة ، أو استفزازهم بالتصريحات التي تُجرئ الناس عليهم . في ذات الوقت الذي لم يفعل للقضاة أي شيء يذكر في المطالبة بحقوقهم وإعانتهم على أداء أعمالهم . ثالثاً : من الضروري جداً أن تأخذ رئاسة القضاء الجديدة في الاعتبار أهمية التعاون والتنسيق المثمر والضروري مع وزارة العدل بصفتها جهازا تنفيذيا يخدم المرفق القضائي ، وهو تعاون وتكامل في هذا المُنعطف المهم في تطوير مرفق القضاء . وأعتقد أن من أبرز أسباب تأخر تنفيذ الإصلاحات القضائية التي يتطلع ُ إليها الجميع في السنوات الماضية ، ما كان من غياب أو على أحسن تقدير ضعف في التنسيق والتعاون بين المجلس والوزارة . رابعاً : إن من الضروري أيضاً أن تستقطب الرئاسة الجديدة في المجلس خبراء قانونيين يكون لهم إسهام واضح في تقوية الجانب القانوني والنظامي في أداء المجلس وما يصدر عنه من قرارات يجب أن تكون ملتزمة بالأصول النظامية الصحيحة ، سيما في جانب مراعاة الاختصاص ، ومراعاة القواعد القانونية الآمرة ، وأنه لايمكن للمجلس الاعتماد فقط على الكفاءات القضائية الشرعية المتوافرة لديه وإغفال الجانب القانوني ، كما أن استقطاب المجلس للمستشارين القانونيين سيكون رافداً حيوياً لفتح فرص العمل لخريجي كليات وأقسام القانون ، وإفادة المرفق القضائي منهم ، ومساهمتهم في جودة أداء هذا المرفق . خامساً : ينبغي أن تُدرك رئاسة المجلس الجديدة أيضاً أنها تسير في عهد الشفافية والإعلام الناقد المسؤول ، وأن في الساحة أقلاماً وأصواتاً إعلامية حقوقية متخصصة ، تراقب أداء الأجهزة القضائية ، وتقوم بواجبها الوطني الإعلامي الهادف البنّاء في تناول هذا الأداء بالنقد والتعليق الموضوعي المتخصص ، وأنه ليس من المصلحة ولا المقبول تجاهلها أو التبرم منها أو تسطيح طرحها بالتُهم ِ في النوايا والمنطلقات ، وأن من مقتضيات الإصلاح الحقيقي أن تكون تلك المادة الإعلامية الحقوقية رافداً مهماً من روافد التطوير وتقويم الأداء ، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا . سادساً : ولعله من أهم الأمور على الإطلاق ، وهو أمر لا يمكن النجاح فيه إلا بتوفيق الله عز وجل ، لأنه بالغ الصعوبة والحساسية ، وقد شهدت عدة تجارب لقيادات قضائية حاولت النجاح فيه فلم توفق فيه للدرجة المتوازنة المعتدلة ، ولم تسلم من الإفراط أو التفريط فيه ، ألا وهو ضرورة حفظ حقوق القضاة دون إهدار حقوق المتقاضين ، فلا نفترض في قضاتنا العصمة ونُصم ّ الآذان عن الشكاوى المُقدمة ضدهم والمُتظلمة من تجاوزات بعضهم ، ولا نُسيء في تناول ومعالجة هذه الشكاوى إلى القضاة ونفعل كما فعل مجلس القضاء قبل مدة بأن يدعو الناس في وسائل الإعلام إلى تقديم الشكاوى ضد القضاة بطريقة خطاب مستفزة وغير مقبولة ، وفيها تكلف ظاهر لا مبرر له ، لأن قبول الشكاوى ضد القضاة ليس أمراً خافياً على الناس ، وقد كفله نظام القضاء وعهد إلى إدارة التفتيش القضائي القيام به ، ولا حاجة لجعله بعد عدة سنوات من صدور النظام مادةً إعلامية توحي بمُنجزات غير حقيقية . وختاماً أسأل الله عز وجل أن يأتي اليوم الذي نفاخر فيه بقضائنا كل الدنيا ، وأن نسعد برؤية العدالة ِ ناشرة ظلالها على كل شبر من أرضنا.. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ُ وهو رب العرش الكريم سبحانه . *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً