في المرحلة التاريخية التي يمر بها القضاء السعودي الذي أولاه خادم الحرمين الشريفين –أيده الله– جل عنايته واهتمامه، حتى صدرت في عهده الميمون أنظمة جديدة تواكب ما يشهده العالم من وعيٍ حقوقي وحراك مدني نحو بسط العدالة وضمان الحقوق والحريات، علاوة على الدعم المادي غير المسبوق لإزالة ما يحتمل من عقبات تحول دون تحقيق وتنفيذ هذا المشروع الطموح في أقصر وقت ووفق أعلى المعايير. إن القضاة اليوم يشهدون تحولاً غير مسبوق ولا معهود لهم في التنظيم والتطبيق وتعتبر عملية التفتيش القضائي جديدة عليهم نسبياً وأهم من ذلك افتقارها إلى وجود معايير وضوابط دقيقة ومعلنة لهم ومحددة يمكنهم من خلال تطبيقها ومراعاتها الوصول إلى درجة عالية في التقييم أقول في هذه المرحلة تحديداً يضطلع التفتيش القضائي بدور فاعل وحساس في تطوير القضاء والنهوض به، وقبل ذلك في حياده واستقلاله وحفظ هيبته، إذ ليس التفتيش فقط موجهاً نحو القضاة والرقابة على أعمالهم، بل هو أيضاً ضمانة لحقوقهم واستقلالهم. وكما هو معلوم أن لدينا في المملكة إدارتين للتفتيش القضائي أولاهما للقضاء العام وثانيهما للقضاء الإداري، كما أن لدينا مجلسين للقضاء، العام والإداري، ولا أدري هل هذا التقسيم أولى أم أن توحيد القضاء تحت مظلة واحدة بمجلس قضاء واحد وإدارة تفتيش قضائي واحدة أكثر نفعاً وتحقيقاً للمصلحة؟. والتفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء يتولى رئاسته علمٌ من أعلام القضاء السعودي، ديانة وعلماً وفضلاً وحكمة ورجاحة عقل وسعة أفق وخبرة ودراية مشهود له بها في ميدان القضاء، عرفه رجال القضاء وشهدوا له بذلك حتى لا يختلف اثنان منهما عليه، أما أنا فقد تشرفت بمعرفته عن قرب ومخالطته والإفادة من علمه وفضله وقبل ذلك سمته الرفيع، حين رئاسته لمحاكم منطقة عسير، وكنت وقتها قاضياً في ديوان المظالم هناك. ذاكم هو فضيلة الدكتور ناصر المحيميد –وفقه الله– ولا يخفى أن وجود من يمتاز بهذه الصفات الكريمة على رأس هذه الإدارة في بداياتها وفي هذه المرحلة المهمة جداً يبعث الاطمئنان على حسن أدائها وقيامها بالدور المنوط بها على خير وجه، لاسيما وأن معه كوكبة من أصحاب الفضيلة أعضاء التفتيش المشهود لهم بالفضل والتميز والكفاءة في العمل القضائي. أما عن التفتيش القضائي موضوعاً فإن لي معه وقفات أرجو أن تكون عوناً للقائمين عليه وهي: أولاً: كما أشرت آنفاً فإن إدارة التفتيش القضائي ودون مبالغة هي أهم إدارات القضاء وأكبرها عبئاً ومسئولية في تطوير القضاء وقد لا يتناسب مع أهمية دورها أن تكون مرتبة رئيسها أقل من رئيس محكمة استئناف إن لم يكن بمرتبة وزير خاصة لو تم توحيد القضاء في مجلس واحد وإدارة تفتيش قضائي واحدة فهذا المنصب يناهز في الأهمية منصب رئيس المحكمة العليا. ثانياً: أسعدني كثيراً ما أُعلن عنه قريباً من تحقيق إنجاز غير مسبوق قدمَته وزارة العدل لمجلس القضاء وذلك في تحقيق الربط الحاسوبي بين المحاكم وإدارة التفتيش القضائي بما يُمكّن من إجراء أعمال التفتيش عن بعد دون الحاجة لانتقال المفتش عبر المناطق والمدن، حيث يوفر له هذا البرنامج الحصول على كل ما يحتاجه من معلومات من القاضي أو المحكمة وهو في مكانه، وهذا إنجاز كبير يحقق الكثير من المصالح ومن أهمها، توفير الجهد والوقت للمفتِشِ والمفتَشِ عليه معاً وعدم إشغال القضاة عن أعمال القضاء، كما يعتبر هذا الإنجاز صورة مشرقة من صور التعاون بين الوزارة والمجلس لتحقيق ما فيه مصلحة القضاء وهو ما لا يستكثر على صاحبي المعالي والفضيلة الوزير والرئيس. ثالثاً: هناك نوعان من التفتيش القضائي أحدهما هو المتعلق بالشكاوى الواردة من القضاة أو ضدهم والآخر هو التفتيش الدوري، وأعتقد أن من المصلحة -خاصة في المرحلة الحالية- العناية بالشكاوى التي ترد ضد القضاة وتمحيصها بدقة ومعالجة ما يتضمنه بعضها من مخالفات قد يرتكبها بعض القضاة في الإجراءات، فمثل هذه الشكاوى تعتبر خير معين لإدارة التفتيش على الكشف عن أوجه القصور والخلل في القضاء وتقييم أداء القضاة، لاسيما أن كثيراً من المتقاضين يتهيبون كثيراً تقديم شكوى بحق القاضي لخشيتهم من تحيز القاضي ضدهم وسطوته أو انتقامه -وهذا أمر مؤسف إن حدث- لذا فإن المشتكي غالباً لا يجرؤ على الشكوى إلا عند الضرورة والضرر وعدم قدرته على احتمال الخطأ، كما أن من ثمار اهتمام الإدارة بمثل هذه الشكاوى أن ذلك يسهم في تخفيف احتقان الناس ضد القضاة، ويساعد على تحسين صورة القضاء في أذهانهم، ويشعرهم بالطمأنينة على حقوقهم وأن هناك جهة تنصفهم وتتفهم مخاوفهم أو شكاواهم داخل السلطة القضائية، وأخيراً فإن في تفعيل التعامل مع هذا النوع من التفتيش تحقيق لأكبر قدر من استقلال السلطة القضائية عن تدخل غيرها فيها، فكما هو معلوم أن الناس في بعض الأحوال قد يضطرون للجوء إلى ولاة الأمر بالشكوى فيقع الحرج في التعامل مع شكاواهم، خاصة إذا كانت المظلمة ظاهرة، وإدارة التفتيش القضائي بإمكانها القيام بهذا الدور على خير وجه، كما أن مما ينبغي ملاحظته أن كثرة ورود شكاوى بحق أحد القضاة في حين قد لا يتعرض زميله لأي شكوى يكشف جزءاً كبيراً من التباين بين القضاة وتمايزهم في الأداء. ولا أعني طبعاً فتح الباب على مصراعيه لإيذاء القضاة بالشكاوى النابعة عن جهل المشتكي أو كيده أو سوء نيته ومثل هذا لا يخفى على حنكة وحكمة منسوبي التفتيش القضائي. رابعاً: رغم أهمية التفتيش القضائي الدوري وشدة الحاجة إليه لتطوير القضاء والارتقاء بمخرجاته، إلا أن مما أرجو أن يكون حاضراً في أذهان أصحاب الفضيلة رئيس وأعضاء التفتيش، مراعاة عدة جوانب مهمة لها تأثيرها في تقييم عمل القاضي هي: أن واقع المحاكم اليوم وما تشهده من ضعف كبير في الإمكانات المتوفرة للقاضي، وكثرة التعيينات، وسرعة وكثرة التنقلات بين القضاة في الأماكن والدرجات القضائية، إضافة إلى الزيادة غير المحتملة في أعداد القضايا والنزاعات المنظورة لدى القاضي، كل هذه الأمور ينبغي أن يكون لها اعتبارها ومراعاتها في التفتيش، فالقاضي السعودي للأسف يكابد أموراً وأعمالاً لا نجدُ قاضياً في العالم يكابدها ويقوم بها والمقام لا يتسع هنا لبسطها، فهي متنوعة وكثيرة، ما بين عدم وجود أي وسائل مخففة للضغط على المحاكم كمكاتب الصلح، إلى الأعمال الإنهائية التي يزاولها القاضي وهي ليست فصلاً في الخصومات بل يكفي للقيام بها كاتب العدل، وقلة وضعف تأهيل وتدريب الكوادر الإدارية العاملة في مكتب القاضي، مما يضطر القاضي إلى مزاولة كثير من أعمال الكتاب والسكرتارية، وعدم وجود آلية لتنظيم مواجهة القاضي للجمهور وتنظيم الجلسات القضائية إذ ترى القاضي في حال يرثى لها من مكابدة الناس على تنوع أصنافهم ما بين الجاهل والأحمق والسفيه والعالم والغني والفقير والعربي والأعجمي والطليق والسجين والمرأة والرجل.. وهكذا في سيل عارم من المراجعين مما يدع الحليم حيرانا، فيكف يُطلب من هذا القاضي أن يراعي في عمله الصغيرة والكبيرة ويحاسَب على الخطأ الإملائي والتجاوز النظامي البسيط، ويبخسُ حقُه في تقدير الكثير من الإيجابيات التي يمتاز بها سواء في الإنجاز أو في جودة الأحكام أو في التميز العلمي والعملي. إن القضاة اليوم يشهدون تحولاً غير مسبوق ولا معهود لهم في التنظيم والتطبيق وتعتبر عملية التفتيش القضائي جديدة عليهم نسبياً وأهم من ذلك افتقارها إلى وجود معايير وضوابط دقيقة ومعلنة لهم ومحددة يمكنهم من خلال تطبيقها ومراعاتها الوصول إلى درجة عالية في التقييم، بل إن تقارير التفتيش حالياً تقوم على مساحة واسعة فضفاضة من الاجتهاد والسلطة التقديرية للمفتش ولجنة فحص التقارير، وما تزال مثل هذه الملاحظات تتضح شيئاً فشيئاً، وبالتالي فليس من العدل أن يكون التقييم على أساسها صارماً حازماً. وما من شك أنه في حال مراعاة هذين الجانبين في تقييم عمل القاضي أعتقد أن نتائج التقارير ستختلف كثيراً، وسنشهد الكثير من القضاة الذين يستحقون أن يُعترف لهم بالكفاءة والتميز، بدل أن يُبخسوا حقهم وتضيع كفاءتهم المستحقة في خضم القشور وصغائر الملاحظات. خامساً: ورد في لائحة التفتيش القضائي أن المفتش القضائي يقوم بالتفتيش على المحكمة كما يفتش على القاضي بنفس الطريقة وأعتقد أن هذه المسألة تحتاج لبعض التنظيم والتنسيق مع رؤساء المحاكم الذين ينبغي أن يبرز دورهم في ذلك وأن يتم هذا التفتيش عن طريقهم. سادساً: كما تضمن النظام أن التفتيش على أعمال قضاة المحاكم الابتدائية والاستئناف أيضاً بنفس الطريقة والآلية وهذا أيضا قد لا يكون مناسباً إذ قد يكون من الأصلح التفريق بين قاضٍ مبتدئ قليل الخبرة وبين قاض وصل لدرجة الاستئناف وهذا –في ظني– من البدهيات. سابعاً: كما نص النظام على أن القاضي تنهى خدمته إذا حصل على تقدير أقل من المتوسط في تقرير الكفاية ثلاث مرات متتالية، لكن النظام لم يتضمن أي آلية أو إجراءات وقائية سواء لمصلحة القاضي بإعادة تقويمه وتأهيله وإصلاح القصور عنده لحمايته من العزل، أو لمصلحة المتقاضين بحيث لا يترك القاضي يزاول عمله بعد حصوله على التقدير الأول أقل من المتوسط حتى يحصل عزله بعد حصوله على التقدير نفسه ثلاث مرات، فما ذنب المتقاضين أمامه طيلة هذه الفترة وما مصير الأحكام التي أصدرها بحقهم وهو في طريقه للعزل؟!. والحديث عن هذا الموضوع الهام طويل ذو شجون وليست هذه سوى أفكار وملاحظات أعتقد أولويتها والحمد لله أولاً وآخرا هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.