قبل ثلاثة أيام، زارتني شابة أمريكية من أصول لبنانية تتردد كثيراً على السعودية لإتمام أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه من إحدى الجامعات الأمريكية الشهيرة، حيث تتمحور رسالتها حول "صناعة التأريخ في المملكة العربية السعودية"، وهي دراسة مهمة جداً تستحق الدعم والتشجيع، لأنها تُسلط الضوء على إشكالية كتابة التأريخ في معظم الدول العربية، وتحديداً في السعودية، كما تُحذر من عدم التنوع في تناول وصياغة التأريخ الوطني، ما جعل وسائل الإعلام الغربية، وتحديداً الأمريكية تتحدث عن المجتمع السعودي كما لو كان يتكون من حزمة من الطلاسم التي لايمكن فك رموزها، حيث تغيب المعلومة وتتناقض الأخبار وتتداخل الأفكار، فلا تبرز إلا تلك الصورة النمطية التي تروجها وسائل الإعلام الأمريكية عن المجتمع السعودي، بل وعن العالم العربي على وجه العموم. مجتمع مضطرب يطفو على بركان هائل من الاضطرابات والفوضى والمشاكل، هذا إضافة إلى الصورة الأمريكية التي تكاد لا تتغير عن دول الخليج، والسعودية تحديداً، والمتمثلة ببرميل النفط والكثبان الرملية والتخلف والتشدد والانغلاق والأصولية والنقاب. تؤكد هذه الباحثة أن الإعلام الأمريكي المسيّس والمختطف تقريباً من بعض الجهات والدوائر شوه كثيراً صورة المجتمع السعودي، كالنظرة للمرأة والتخويف من الاقتراب للخصوصية السعودية وتوجس الفرد السعودي من الآخر، لاسيما الغربي، والكثير من المغالطات والافتراءات هذه هي تقريباً النظرة التقليدية التي تحملها الذاكرة الأمريكية عن السعودية والعالم العربي من محيطه لخليجه، مع الأخذ بالاعتبار طبعاً لبعض التفاوت والاختلاف بين قطر عربي وآخر، لاسيما دول المغرب ومصر ولبنان. كيف ينظر لنا الآخر، وتحديداً الأمريكي؟ سؤال عريض ومعقد كهذا، يحتاج إلى نقاش هادئ، وليس لمجرد إجابة جاهزة أو سريعة، فعلى الرغم من العلاقات والمصالح والتقارب والصداقة بيننا وبين الولاياتالمتحدةالأمريكية، كدولة وشعب، والتي استمرت ومازالت لعقود طويلة، رغم كل التحولات والتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، وخاصة في العالم العربي، إضافة إلى الآلاف من السعوديين الذين تلقوا تعليمهم العالي في الجامعات الأمريكية، رغم كل ذلك التماس والتقارب إلا أن النظرة التي تحملها الدوائر والمراكز الأمريكية، فضلاً عن المواطن الأمريكي البسيط تكاد تكون هي لم تتغير. لقد وجدت في هذه الشابة الجميلة التي جمعت الجمال والذكاء والشطارة اللبنانية، والجدية والمهنية والحرفية الأمريكية، فرصة نادرة لرؤية المجتمع السعودي بهذه العيون الامرو - لبنانية. بالفعل، هي خلطة رائعة تمثلت في هذه الشابة المتحمسة التي عاشت عامين كاملين في السعودية، وتحديداً في الرياض، وزارت تقريباً كل المدن السعودية المهمة، وبحثت في العديد من الوثائق والمخطوطات والمصادر، والتقت الكثير من المؤرخين والباحثين. بالنسبة لي، كانت بمثابة فرصة رائعة لمعرفة النظرة الحقيقية - وأسبابها - التي يحملها الأمريكي بمختلف مستوياته حول العالم العربي، وتحديداً السعودية، فهي عربية ومسلمة وعاشت طفولتها ومراهقتها في لبنان، وأكملت دراساتها العليا في أمريكا، وتحديداً في مدينة نيويورك. وهل هناك، أجمل من هذه الفرصة، ومن هذه الشابة الرائعة لكي أعرف كيف تنظر العيونالأمريكية لهذا الوطن العزيز؟ لا تُخفي هذه الشابة الامرو- لبنانية حبها الكبير للمجتمع السعودي الذي تحمل له الكثير من التقدير والامتنان، لأنه - كما تؤكد - مجتمع طيب ومضياف وودود، وإن كانت تأسف كثيراً لتمظهر بعض الثقافات والسلوكيات والأفكار التي يتبناها البعض، كالنظرة للآخر القريب والبعيد، وتنامي الحساسية المفرطة ضد التباين والتمايز والاختلاف ما بين التيارات والأفكار والاتجاهات، والتي بدأت تبشر ببوادر إقصاء وتهميش وتنافر، في حين أن التنوع والتباين كما تؤكد دليل على عافية وقوة وثراء المجتمع. وكما هو معلوم، فإن الصورة النمطية التي يحملها المجتمع الأمريكي بنخبه ومثقفيه وسياسييه عن المجتمع السعودي تتأرجح ما بين مرحلتين، قبل وبعد 11 سبتمبر، ولكنها في المجمل، مبنية على الكثير من المعلومات والأخبار والدراسات التي لايُمكن الوثوق بها، لأنها صادرة من دوائر ومراكز بحثية لها ارتباطات وأجندات مختلفة، وهذا لا يعني - والكلام لهذه الشابة الامرو- لبنانية - عدم وجود بعض الأبحاث والدراسات الجادة والشفافة التي قاربت الحقيقة في الكثير من الجوانب. فالشعب الأمريكي - كما تقول - ينظر بشيء من السطحية التي تفتقر للعناية الكافية، حيث تتمحور تلك النظرة النمطية حول منطقة عربية كثيرة الاضطرابات والمشاكل، خاصة الآن مع تنامي "الربيع العربي" في أكثر من قطر عربي، أما صورة المجتمع السعودي على وجه التحديد، فهي تتمركز في نفس التفاصيل الساذجة والقليلة، كالنفط والصحراء وتعدد الزوجات واضطهاد المرأة، وغيرها من تلك التفاصيل النمطية التي لم تتغير، رغم كل التحولات والتداعيات الكبرى الأخيرة، ورغم وجود عشرات الآلاف من المبتعثين السعوديين في الولاياتالأمريكية. تلك الصورة النمطية، معروفة ولا تستحق الالتفات لها، ولكن الجديد هذه المرة، هو نظرة هذه الشابة الرائعة التي تتشكل من خلطة متنوعة، ما يجعلها - أي نظرتها - جديرة بالاهتمام والرصد. وتؤكد هذه الباحثة أن الإعلام الأمريكي المسيّس والمختطف تقريباً من بعض الجهات والدوائر شوه كثيراً صورة المجتمع السعودي، كالنظرة للمرأة والتخويف من الاقتراب للخصوصية السعودية وتوجس الفرد السعودي من الآخر، لاسيما الغربي، والكثير من المغالطات والافتراءات. وتعزو هذه الشابة كل ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها أحداث 11 سبتمبر التي أضرت بسماحة الإسلام، وبالتالي بالسعودية التي تُعتبر العنوان الإسلامي الأبرز. أما السبب الثاني، فهو عدم السماح للباحثين والدارسين الأمريكيين بالاطلاع على الوثائق والمخطوطات السعودية، ما يدفعهم للحصول على بدائل ومصادر أخرى غير صحيحة. "هناك وعي وثقافة وانفتاح في المجتمع السعودي، ولكن البعض يحاول أن يعود بالمجتمع للوراء، لأسباب واهية ومفتعلة، تسببت ومازالت في تراجع دور هذا الوطن الذي يستحق مكانة رائعة بين الأمم". هكذا ختمت صديقتي الامرو- لبنانية رؤيتها المهمة حول المجتمع السعودي! نعم، نحن بحاجة إلى المزيد من الانفتاح والتحرر من الكثير من الرواسب والسلوكيات والثقافات التي عطلت عجلة التنمية الوطنية في الكثير من جوانب وتفاصيل حياتنا..