في ظروف استثنائية عربية وإقليمية وعالمية، تشمل أزمة الجوع والتصحّر في الصومال، وحرب ليبيا، والصراع في اليمن وسورية، وضبابية الأوضاع في مصر وتونس، والاحتقان المزمن في الصراع العربي - الإسرائيلي، عقدت في القاهرة أخيراً، الدورة ال58 ل «اللجنة الإقليمية لشرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية» (إمرو). ولعلها المرة الأولى التي تختلط فيها أحاديث الملاريا والأمراض السارية وشلل الأطفال وشيوع السرطان، بقضايا الحرية والعدالة الاجتماعية والتغيير التي باتت الشغل الشاغل لدول الإقليم. لقد اختلط حابل الصحة بنابل السياسة في هذه الدورة التي جمعت وزراء صحة دول «إمرو»، وهو الإقليم الأكثر اضطراباً، الذي يضم الدول العربية (باستثناء الجزائر)، إضافة إلى إيرانوباكستان وأفغانستان. وناقش المجتمعون الوضع الصحي في السنة المنصرمة التي اعتُبِرت «الأكثر اضطراباً» أيضاً، وفق توصيف الدكتورة مارغريت تشان وهي المديرة العامة ل «منظمة الصحة العالمية». وعلى رغم المحاولات الجادة لالتزام الحياد سياسياً، والجهود الحثيثة للاكتفاء بالملامسة العابرة لحوادث «الربيع العربي»، لم تستطع مسارات النقاش تجنّب ما لا يمكن الفرار منه، أو هكذا بدت الأمور في هذه الدورة. «إن ملامح الشرق الأوسط الآخذة بالتغيير، والاحتجاجات التي بدأت في مطلع هذا العام، حظيت باهتمام العالم كله. ورفعت وسائل التواصل الاجتماعي من هذا الاهتمام ليستأثر بالحقل الإعلامي برمته». تلك كانت كلمات تشان، التي أعادت إلى الأذهان نواقص العرب الثلاثة: الحرية والمعرفة وتمكين المرأة – كما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأممالمتحدة، وهي النواقص التي ألقت بظلال وخيمة على صحة العرب جسدياً ونفسياً وعقلياً. إلا أن هذا التأثير كان متوقعاً، على الأقل بالنسبة إلى البعض، ولو بصورة نسبية. فكما يمكن علماء الأرصاد توقع رياح عاتية هنا أو تسونامي هناك، يستطيع علماء الاجتماع وأساتذة الاقتصاد وخبراء السياسة، أن يتحسّسوا مواضع الانفجار والتنبؤ باقتراب ساعة الصفر. وقالت تشان: «لقد تعرف المحللون الاقتصاديون والسياسيون إلى الأسباب الجذرية التي تجعل من الاضطرابات أمراً يمكن تفهمه، بل والتنبؤ بحدوثه، واستعانوا في ذلك بما اكتسبوه من معارف متأخرة». وتطرّقت تشان إلى «الربيع العربي» وصلته بالصحة، مشيرة إلى أن «الاستجابة للتطلعات المشروعة للمواطنين، مثل العدالة الاجتماعية، وسدّ الفجوات الاقتصادية بين الطبقات، من شأنها أن تؤدي إلى عالم أكثر أماناً وسلامة وصحة». ويبدو أن تشان رأت في «الربيع العربي» موطن إلهام لكل أنواع الإصلاحات، بما في ذلك إصلاح المنظمة التي ترأسها. إذ قالت إن «هذه الدورة تُعْقَد في بلدٍ شهد تغيرات جذرية بفضل شجاعة أبنائه ورغبتهم في الإصلاح والتغيير، وإن المنظمة تستلهم هذه التجربة، وتجري عملية إصلاح بطريقة متماسكة وفعّالة ومهنية من أجل مستقبل صحي أفضل». كارثة الصومال لا يكتمل الحديث عن غدٍ أكثر صحة إلا بالنظر إلى ماضٍ وحاضر مثقلين بالمشكلات الصحية، لعل أكثرها آنية تلك الكارثة الإنسانية في الصومال. إذ ناشد وزير الصحة الصومالي الدكتور عبدي عزيز شيخ يوسف دول الإقليم و «إمرو» التدخل لانتشال أبناء بلاده من براثن الجفاف وشحّ الغذاء ونقص موراد المياه والفقر المدقع، منوهاً بجهود المملكة العربية السعودية في هذا الصدد. وألقى الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز الربيعة وزير الصحة السعودي، الضوء على التحدّيات التي يعيشها الإقليم وتؤدّي إلى ما وصفه ب «الفقدان غير المبرر لحياة الإنسان وكرامته». ورأى أنها تؤكد أهمية دور منظمة الصحة العالمية في الحدِّ من انتهاك كرامة الإنسان، وحفظ حقه في الصحة والحدّ من المرض والفقر. ووجه الدكتور حسين الجزائري المدير الإقليمي ل «إمرو» الشكر إلى السعودية التي رفدت جهود «إمرو» في مواجهة المجاعة في الصومال بمبلغ عشرة ملايين دولار. كما أشاد ب «المبادرة الشجاعة التي اتخذها خادم الحرمين، بأن أعاد للمرأة مكانتها، باعتبارها نواة المجتمع، ومولّدة الحياة وصانعة المستقبل». إلا أن «صانعة المستقبل» في المنطقة العربية تعاني ارتفاعاً في نسب الإصابة بسرطان الثدي، وهو أحد أهم القضايا المطروحة على جدول أعمال اللجنة. ويضم الجدول مشكلة استمرار تفشي الملاريا في عدد من دول الإقليم، إضافة إلى قنبلة توشك على الانفجار هي مقاومة شلل الأطفال لجهود الاستئصال في الإقليم، تحديداً في باكستان وأفغانستان حيث استمرار أزمات الطبيعة والإنسان، يؤثر سلباً في تلك الجهود. ثمة مشكلة أخرى رأى خبراء «إمرو» أنها تتفاقم بصورة مضطردة، تتمثل في ارتفاع معدلات استهلاك التبغ. فعلى رغم جهود ضخمة بذلتها «إمرو» ودول الإقليم لتطويق هذا الداء، هناك اتجاه لزيادة نسبة المدخنين بين العرب، لا سيما صغار السنّ والشباب. وطالبت مديرة منظمة الصحة بمواجهة داء السكري الذي بات يضرب إقليم شرق المتوسط بشراسة، وحمى الضنك التي تهاجم دولاً عربية وأبرزها السعودية واليمن، والسمنة الناجمة عن انتشار الوجبات السريعة في دول الإقليم في شكل لا سابق له، في ظل الظروف السياسية والأمنية الحرجة التي تمر بها معظم دول الإقليم. حروب الطرق والفقر الأرجح أن جنون قيادة السيارات والمركبات على الطرق، يشكّل أحد أبرز الدلائل على أزمات يتفنن الإنسان في صنعها بيديه، فتهدّد صحته ومصيره وحياته. وفي كثير من دول إقليم شرق المتوسط، تحوّلت الطرقات ساحات مفتوحة لحروب يومية تدور رحاها على مدار الساعة، فتحصد الأرواح وتثقل أكلاف رعاية الإنسان وصحته نفسياً وجسدياً، مع ملاحظة أن تلك الأكلاف باهظة أصلاً. فبحسب «إمرو»، تفقد دول شرق المتوسط 150 ألف مواطن سنوياً على الطرقات، إضافة إلى وقوع قرابة ثلاثة ملايين إصابة سنوياً بأثر من حوادث السيارات والمركبات الآلية. وترجم ذلك نفسه بأن حلّت حوادث في المرتبة السادسة على قائمة أسباب العبء المرضي في دول شرق المتوسط، مع الإشارة إلى أن هذا العبء مثقل أصلاً بمشكلات ما كان ينبغي لها أن تظل موجودة في القرن ال21 ومثلاً، يموت سنوياً في دول شرق المتوسط قرابة نصف مليون مولود، إضافة إلى مليون و115 ألف وفاة لأطفال دون سن الخامسة. وتضاف إلى هذه القائمة في دول الإقليم وفيات الأمهات البالغ عددها سنوياً قرابة 52 ألفاً. والأدهى من ذلك أن المعلومات المتوافرة حول طبيعة الأمراض التي تسبب وفيات الأمهات ليست واضحة، بل تتسم بالضعف الشديد. ويضاف إلى هذه الصورة القاتمة، محدودية الحصول على الخدمات الصحية، ما يحول دون وصول المواطنين إلى علاج مناسب لأمراض قد تساهم في هذه الوفيات. وباختصار، من الواضح أن أوضاع كثيرات من أمهات دول الإقليم ومواليدها وأطفالها، تسير في دائرة مفرغة. ويشكّل الفقر دائرة مفرغة أخرى يدور فيها مواطنو إقليم شرق المتوسط، منذ وقت طويل. بل تطبق هذه الدائرة المزمِنة على رقاب عشر دول على الأقل في هذا الإقليم. وتئن شعوب دول الإقليم أيضاً من وطأة الفجوة المتسعة بين الباحثين الصحيين وأصحاب القرار في الصحة العامة وشؤونها. وتنفرد البحوث الصحية بالقدرة على إدخال معطيات الاجتماع والإقتصاد، إضافة الى متغيّرات االبيئة، في المخططات المتصلة بصحة المواطنين. في المقابل، تعاني هذه البحوث قصوراً شديداً، ما يجعلها في حاجة ملحة للدعم المؤثّر. ويحظى إقليم شرق المتوسط بتشكيلة متفردة من العوامل التي تؤثر سلباً على الصحة العامة، إذ تصاحب دعوات التغيير التي تشهدها دول في هذا الإقليم، على رغم آثارها الإيجابية على المدى الطويل، حال من عدم الاستقرار تؤثر سلباً على الصحة. ويتوقّع أن يتزايد هذا التأثير السلبي في ظل الأوضاع الراهنة. ولذا، بدا منطقياً أن يفرد مسؤولو الصحة في إقليم شرق المتوسط، جلسة مُطوّلة في اجتماعهم السنوي للنظر في وضع الاضطرابات النفسية والعصبية والإدمانية، التي تحمل المسؤولية عن 12 في المئة من العبء المرضي في المنطقة. وقد ساد توقّع لدى خبراء «إمرو» بأن هذه الأمراض ماضية في طريق التصاعد، لوقت قد يكون طويلاً. يضاف إلى ذلك، أن هذه النسبة ترتفع بشكل لافت في المناطق التي تواجه أوضاع طوارئ معقدة. فمثلاً يعاني 37.4 في المئة من أطفال المدارس في العراق، ونحو نصف الأطفال الفلسطينيين، من اضطرابات نفسية وعصبية متنوّعة. وعلى رغم هذه المعطيات، تحتفظ الوصمة المرتبطة بالمرض والاضطراب النفسي، بقوتها وتأثيراتها في معظم دول الإقليم. وإذا أضفنا إليها التجاهل السياسي ونقص التمويل، يجد أولئك المرضى أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، فتتصاعد أعدادهم بصمت. علم ليبيا وإسم «دولة جنوب السودان» رفرف علم ليبيا الجديد في الدورة ال58 ل«إمرو» للمرة الأولى. وظهر في الساحة الخارجية للمقر وعلى طاولة الاجتماعات. - أضيف مقعد جديد ل «إمرو» باسم «دولة جنوب السودان». فإثر إعلان استقلالها في 7 تموز (يوليو) الماضي، استكملت جمهوريّة جنوب السودان إجراءات انضمامها الى عضويّة الأمم المتّحدة، وتلى ذلك نيلها عضوية المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، مثل «منظّمة الصحّة العالميّة». وأصبحت الدولة ال 194 في عضوية المنظمة الأخيرة. وحصلت استطراداً على عضوية في لجنة دول إقليم شرق المتوسّط. - شهدت الدورة انتخاب مدير إقليمي جديد ل «إمرو» خلفاً للدكتور حسين الجزائري. وتنافس على المنصب ستة مرشحين هم الدكاترة محمد عوض تاج الدين (مصر) وهيثم الخياط (سورية) وعلاء علوان (العراق) وعبدالكريم رافع (اليمن) ومحمد أحمد علي الشيخ (السودان) ومبشر شيخ (باكستان). وبالاقتراع، جرى اختيار مرشح العراق، وهو حاصل على شهادة الطب من جامعة الاسكندرية، وعمل فترة في اسكتلندا، واستكمل مؤهّلاته المهنية في بريطانيا. بعد عودته إلى بلده الأم، تقلّد مناصب عدّة تتصل بالطب السريري والأكاديمي والصحة العمومية. والتحق بصفوف «منظمة الصحة العالمية» في 1999. وبين عامي 2003 و2005، شغل منصبي وزير التربية ووزير الصحة في العراق. - شهدت الجلسة الافتتاحية تقديم جائزة منظمة «الصحة العالمية لمكافحة التبغ» للدكتورة مريم الجلاهمة، وهي نائبة وزير الصحة في مملكة البحرين، ومُنِحت «جائزة توفيق علي شوشة» للدكتور أمجد داود نيازي من العراق. وذهبت «جائزة دولة الكويت لمكافحة السرطان والأمراض القلبية الوعائية والسكري» إلى الدكتور علي رضا أنصاري مقدّم من إيران. - تزامنت أعمال هذه الدورة مع إطلاق الشخصية المرئية ل «منظمة الصحة العالمية»، التي تمثل بعداً تصويرياً يعمل على تعزيز المعارف في مجال الصحة.