الإيقاع الزاعق لملامح النصب والاحتيال الذي بدأ يفرض وجوده على صفحات الحياة اليومية للمجتمع يجعلنا دائماً نتلقف أي ملمح إنساني، أو همسة شهامة دون أن تفصح عن هويتها بفرح شديد، وإحساس بأنه لا تزال هناك بقايا من ذلك الإنسان المدمر، والساعي إلى التدمير. البحث المكثف عن الغائب داخل البشر لا بد أن يدفعنا إلى الاصطدام ببعض الوجوه البسيطة التي لا تزال تحمل في داخلها جوهر الإنسان وإن انخفض صوته لكن حضوره الإنساني سيظل الأقوى. الحقيقة دائماً تقول إن الإنسان وإن جرفته المتاهة، وعجز عن محاولة محوها، إلا أن هناك إنساناً آخر سيتمكن من الهروب منها، وسيجد نفسه يقف على أبواب أن يكون هو، لا كما أرادت له الحياة أن يكون. هؤلاء البشر ينبغي إبرازهم وتوسيع دائرة الضوء حولهم لأنهم في المحصلة هم النماذج الحقيقية لكينونة الإنسان، وهويته التي تعتمد على المعنوية والمساعدة ونجدة الغير، والانتماء إلى الآخرين. ينبغي على الإعلام والمجتمع معاً استثمار هذه النماذج لتكريس الصورة المثالية لهم، وتكريمهم، ليعاودوا الحضور مرة أخرى، ولنفتح الأبواب لغيرهم من أجل الحضور والمساهمة الفاعلة في أنسنة المجتمع، الذي بدأ يفقد كثيراً من ملامحه الحقيقية. منذ فترة قرأت في جريدة «الرياض« أن مواطناً فقط شق طريقاً بين الجبال بجهود ذاتية لمسافة 15كم ببلدوزر مستأجر، وأن هذا الطريق مكّن الأهالي والسياح من التحليق عبر الجبال بين البساتين والآثار. وفي الخبر أن مواطناً من أهالي محافظة الشنان «80 ك.م» شرقي مدينة حائل كان يعمل سائق بلدوزر أنجز مشروعاً عملاقاً، حيث تمكن من شق طريق وتمهيده بلغ مداه أكثر من خمسة عشر كيلومتراً وسط الجبال الشاهقة، والمنحدرات السحيقة حيث اعتبر الإنجاز الأول من نوعه من حيث أسلوب التنفيذ الفريد والهدف الذي نُفذ من أجله، حيث عكف المواطن عطا الله دخيل الله الأسلمي بمفرده، رغم أميته من إعداد دراسة ميدانية، وتنفيذها وفق أدق الأسس المهنية كانت السبيل الوحيد إلى عبور أهالي الشنان وزائريها للمرة الأولى إلى السهول المنبسطة، وقد كلفه المشروع مائة وخمسين ألف ريال، والواقع أنني لن أزيد على ما قاله الزميل أحمد قطب في تحقيقه بجريدة «الرياض» من أنه لا بد أن نشعر بالفخر والاعتزاز كون عطا الله مواطناً سعودياً رغم أميته والتي لا يعرف بعدها سوى كتابة اسمه، حمل كل هذه العزيمة وأذاب الصخر، وحول الحلم إلى حقيقة من خلال منجز حضاري وسياحي ظل يراود الأهالي منذ سنوات طويلة. وأنجزه هو في أربعة أشهر من العمل المتواصل وبمبلغ بسيط من المؤكد أنه كان سيتضاعف عشرات المرات لو أُنجز من قبل إحدى شركات الطرق. بقي أن أشير إلى أن الأسلمي نفذ شق ثلاثة طرق أخرى قبل ذلك اعتبرت مهمة شقها مستحيلة، ومع كل هذه القدرة الإنسانية في الإحساس بالآخرين، وملامسة همومهم، ومتاعبهم، وتفرغه لفتح أبواب الأمل لهؤلاء المواطنين للوصول إلى قراهم وأملاكهم في أعالي الجبال التي ترتفع باتجاه السحاب مئات الأمتار، بعد تعذر الجهات المسؤولة عن المساعدة في اختراق هذه الجبال الحصينة، يظل هذا المواطن الشهم والنموذج الحي للمساهمة ولو بشكل فردي في بناء هذا الوطن من خلال شق هذا الطريق العملاق عاطلاً عن العمل كما أشار التحقيق، وأنه لا يحمل سوى الطموح في أن يجد فرصة للمشاركة في عملية التشييد والبناء التي يشهدها الوطن. والسؤال الذي يمتد بحجم هذا الإنجاز الحضاري،وبعد مرور أكثر من شهرين على نشر التحقيق بشكل رائع وموسع في الجريدة. ماذا قعلنا لهذا المواطن الشهم والغيورعلى توقف حال أبناء منطقته وعجزهم عن التواصل مع قراهم؟ ماذا فعلنا لهذا المواطن النبيل؟ ومن ساهم في مساعدته، وفتح أبواب الأمل لديه إما بالعمل أو بفتح أبواب الأمل في أن يُسهم في البناء وهو القادر على ذلك؟ أين وزارة النقل والمواصلات عن تعيينه أو حتى شكره وتقديره؟ أين الصحف والإعلام عن هذه النماذج الجميلة وتكريس صورها وتكريمها لإبراز الوجه الحضاري لأمتنا، بعيداً عن الوجوه الهلامية، ونجوم ستار أكاديمي ولاعبي كرة القدم؟ أين نحن عن هذا الرجل البسيط؟ (يتبع بعد غد)