الأجيال العربية الناشئة يتفتح وعيها ورؤاها على فوضى معرفية صاخبة، فلا تجد أمامها من «التماسك» سوى «عقائد» و«ايديولوجيات» جامدة، تقدم لها العالم والحياة برؤى وإطارات ضيقة، لا تكفي، في أحسن أحوالها، لإدراك كنه ما يستهلكه الشاب الناشئ في حياته اليومية، من مشروبات ووجبات سريعة، ناهيك عن أشكال المعرفة ووسائلها، التي تبدأ بالانترنت ولا تنتهي بالفضائيات، ووسائل الاتصالات الخلوية وتطبيقاتها، والهوس المحموم للناشئة بها. وستبقى «قصة الأمة الناشئة..!»، التي يحاولها الكتاب العتيد، «مصفّدة» بالكثير الكثير من «الأسرار»، وتحتاج الى أكثر من الكتب لرواية حقيقتها وخفاياها. أما الطموح والغواية، اللذان يأملهما الكتاب، فهما تقديم القصة الإسرائيلية للأمة الأميركية، على أنها حكاية مغامرة ونجاح علمي، بنسبة سر المعجزة الى «أمة العقول المهاجرة» مدارك تلك الأجيال لا يسعفها ما تجده أمامها، من أشكال معرفية متوافرة، على مستوى الكتب أو الصحافة أو الجامعات أو الانترنت. فمعظم ما تحمله تلك المصادر والوسائل، من نقد وعلوم وثقافة، يقدم اليها اليوم ضمن فضاء مفتوح على العالم كله، وبلا أي حد أدنى من الثقة في «الذات العربية»، سواء أكان ذلك على المستوى الوطني أم القومي. في حالة كهذه، تصبح الهشاشة، الفردية والجماعية، سيدة الأشياء. والاستباحة المعرفية، لأجيال بأكملها، أكثر من ممكنة، بل متاحة لمن هو معني بذلك، في مؤسسات الغرب القادرة والممنهجة. وما يفاقم حالة الهشاشة تلك استمرار عملية الجلد الذاتي العربية، المتواصلة منذ عقود، بفوضاها التي تتم فيها، وعلى كل المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية، ما يجعلها، بلا منهجيتها، ولا مسؤوليتها، تأخذ أشكالاً تدميرية، غير مسبوقة في المجتمعات العربية. في هذا السياق، يأتي صدور كتاب، في الولاياتالمتحدة والدولة العبرية، قبل عامين، من حيث تأثيره، أو شقه لمسالكه نحو طرقه في التأثير على الأجيال العربية، وخصوصاً الناشئة منها، فالكتاب، الذي احتل على «شبكة أمازون» لبيع الكتب مرتبة «الأكثر مبيعاً»، في الأسبوع الأول لصدوره، يحمل عنوان: «الأمة الناشئة: قصة معجزة الاقتصاد الإسرائيلي»، لمؤلفيه: «دان سينور» وهو مستشار سابق في وزارة الخارجية الأميركية، و«ساول سينجر» وهو محرر صحافي إسرائيلي. ولعل الترويج العربي غير المباشر للكتاب، في حينه، بآلية الجلد المتواصلة على قدم وساق، منحه قيمة مضافة. فطريقة استقبال وتعاطي بعض الأكاديميين والصحافيين العرب للكتاب بدت بشكل يقدم الكتاب على أنه «بحث استراتيجي» في حالة التردي والتأخر العربيين، اقتصادياً وتقنياً وعلمياً. حتى إن كاتباً عربياً، وهو أكاديمي ومناضل سابق، أفرد له مقالين متواليين، في صحيفة عربية مرموقة. مضمون الكتاب يقوم على الربط بين «النشأة التاريخية لإسرائيل» و«الدور المجتمعي الواسع النطاق لجيش الدفاع الإسرائيلي» في الدولة العبرية العتيدة. ومن ثم يستعرض الميزات الديموغرافية لمجتمع المهاجرين في الدولة العبرية، وما يتصل بذلك من تعددية ثقافية، إضافة الى ما حققه الاقتصاد الإسرائيلي من نجاحات، وخصوصاً في القطاع التقني. الأمر الذي جعل «إسرائيل»، بحسب الكاتبين، مركزاً عالمياً للاستثمارات، في قطاع تكنولوجيا المعلومات، خلال السنوات العشر الأخيرة. ويحاول الكتاب، باعتماد مؤشرات رقمية، وأخرى اقتصادية وسياسية وعسكرية، تأكيد أن «إسرائيل»، بسكانها الذين لا يتجاوزون السبعة ملايين نسمة، وبعمرها الذي تجاوز الستة عقود بقليل، والمطوقة بالأعداء، والمشتبكة في حروب دائمة منذ نشأتها، تمكنت، بالمعلومات التي يقدمها الكتاب، أن تتفوق باقتصادها على العديد من اقتصاديات دول كبرى، كالاتحاد الأوروبي واليابان. ويصل الكاتبان الى أن «إسرائيل هي دولة الأدمغة»، وأنها ليست «مجرد دولة تقليدية». وفي الخطوط العريضة للكتاب، فإنه يتناول العناوين الأساسية التالية: «مؤشرات تقدم القطاع التكنولوجي في إسرائيل»، «الجيش الإسرائيلي جامعة للتكنولوجيا والإدارة»، «إثراء الاقتصاد المدني بالتكنولوجيا العسكرية»، و«لماذا لم يتقدم القطاع التكنولوجي في الدول العربية»؟ صحيح أن الكتاب يستحق الدراسة، والنقد العلمي المنهجي، استناداً الى إحصاءات ومؤشرات رقمية من المؤسسات الاسرائيلية ذاتها. غير أن الأصح، ربما، هو فك حالة التضليل المتعمدة، بالزج ب«الجيش الإسرائيلي» من حيث كونه جيشاً، ومهما بلغت درجة تأهيله وتدريبه، في متن مادة الكتاب الأساسية، وفي ادّعاء كونه «جامعة للتكنولوجيا والإدارة»، وحصر ذلك على أنه ميزة تحدث في الدولة العبرية وحدها، وقطع ذلك عما يحدث من علاقات ووظائف بين بنية الدولة العبرية ككل، وتأثير ذلك على جيشها، وما يتصل به من حروب، من حيث التعامل الغربي مع معظم حروبه ومهماته ك«مختبرات» بشرية ميدانية، للكثير من الأسلحة والتقنيات المتقدمة. فبحسب الكاتبين، فإن تصاعد دور الصناعات التقنية، في الاقتصاد «الإسرائيلي»، يعود الى «الدور المحوري للجيش» في مجتمع الدولة العبرية، وبالذات في ما يخص تحطيم الحواجز الاجتماعية والطبقية، التقليدية والجامدة، داخل مؤسسة الجيش، إضافة الى دور الجيش «كمؤسسة معنية بالتطوير التقني»، و«تدريبات الشبان المجندين على استخدام تلك التقنيات»، ما يسهم في تخريج أعداد كبيرة من «المبتكرين والباحثين»، في مجال تلك التقنيات، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على اقتصاد الدولة. كما أن الكاتبين يعتبران الاقتصاد «الإسرائيلي» يمثل المرحلة النهائية، التي يمر بها «المواطن»، بعد مرحلتيّ الخدمة العسكرية والتعليم الجامعي. الأمر الذي يجعل «الشاب الإسرائيلي» أكثر نضجاً من نظيره الأميركي، من حيث إدراكه لمعنى الوقت والجدية، فضلاً عن التجارب الشخصية، بحسب الكاتبين «سينول وسينجر». وهو ما حاولت تقديمه قناة NBC الأميركية، بقولها: «ثمة فرصة عظيمة لأميركا للتعلم من نموذج ريادي إسرائيلي مثير، بدءاً من ثقافة القيادة وإدارة المخاطر»، معتبرة الكتاب ضرورة لكل «مدير تنفيذي يطمح الى تطوير الجيل المقبل من الشركات الريادية»..!. قد لا تسمح المساحة المتاحة هنا بتفصيل أكبر، عن خطورة ذلك الكتاب، وأهمية ما يرتبه من التزامات في النقد والنقد المقارن والمنهجي، غير أنها فرصة للتذكير ب«وهج النقد المعرفي»، الذي ساد المنطقة العربية كلها، بعد هزيمة العام 1967، وما قاد إليه ذلك النقد من مقدمات نصر كانت ممكنة. وستبقى «قصة الأمة الناشئة..!»، التي يحاولها الكتاب العتيد، «مصفّدة» بالكثير الكثير من «الأسرار»، وتحتاج الى أكثر من الكتب لرواية حقيقتها وخفاياها. أما الطموح والغواية، اللذان يأملهما الكتاب، فهما تقديم القصة الإسرائيلية للأمة الأميركية، على أنها حكاية مغامرة ونجاح علمي، بنسبة سر المعجزة الى «أمة العقول المهاجرة»، في حكاية تماثل وتشابه، بين «الأمتين..!» ، وما على الأمة الأميركية سوى التكامل، وتكرار ذاتها، في جغرافيا أخرى «مقدسة» هذه المرة..!!؟