مازال البعض يصرّ على اللجوء إلى القضاء في المنازعات البسيطة، والتي من الممكن أن يتم حلّها بالصلح أو الاعتذار، وهو ما يتطلب الوعي بأهمية التسامح، والعفو عند المقدرة. وعلى الرغم من أن جزءا من مهام مكاتب الصلح بوزارة العدل هو فض المنازعات، إلاّ أن الكثير من تلك الجهود مازالت محدودة لتحقيق الهدف، إذا ما قورن برغبة الكثيرين في اللجوء إلى القضاء لحل مشاكلهم، وهنا لابد من توسيع أدوار مكاتب الصلح، حتى يكون لها تأثير واضح في تعاطي الناس مع المنازعات، وكذلك سبل حلها، كما أن الدور لابد أن يتعدى أروقة المحاكم ليصل إلى تفعيل دور مراكز الأحياء، والمساجد، كما أن المجتمع بحاجة إلى مفاهيم جديدة في التواصل والاتصال، حتى نستطيع أن نغيّر من واقع فكرة اللجوء إلى القضاء في صغائر الأمور التي يمكن حلها صلحاً. «الرياض» تطرح الموضوع، وتناقش مع المختصين، فكان هذا التحقيق: نسبة قليلة في البداية قال «أحمد جمعان المالكي» -محامي-: إن مكاتب الصلح موجودة في أغلب المحاكم التابعة لوزارة العدل، وهي تختص بالنظر صُلحاً في القضايا التي يرى القضاة أهمية إحالتها للصلح، كدعاوى الطلاق والخلع وحضانة الأولاد، وكذلك نفقتهم وزيارتهم، أو قضايا المضاربات وعقوق الوالدين، وتعنيف الزوجات، مضيفاً أنه أسهمت هذه المكاتب في حل بعض من هذه القضايا، إلاّ أنه لازالت نسبة القضايا التي تحل عن طريق تلك المكاتب الموجودة سابقاً قليلة، مرجعاً ذلك إلى ضعف ثقافة الصلح بين كثير من الخصوم، وعدم إعلامهم بفوائد الصلح، وكذلك الضغط الرهيب على أعضاء هذه المكاتب، جراء القضايا الكثيرة التي تحال إليهم، إلى جانب عدم وجود أي حوافز تدفعهم إلى الإبداع والتميز في الإصلاح بين المتخاصمين، موضحاً أن من أهم الآليات المناسبة لتفعيل هذه المكاتب بيان فضائل الصلح والتوفيق، وكذلك الحث عليه، عن طريق وسائل الإعلام وخطب المساجد، وتزويد هذه المكاتب بالمتخصصين، مشدداً على أهمية منح المرأة فرصة للعمل في تلك المكاتب، معتبراً أنها ستسهم في تفعيلها، مشترطاً أن تتولى الدعاوى التي أطرافها نسائية، مؤكداً على أن وجود قوانين تلزم باللجوء للصلح قبل عرض النزاع على المحكمة أمر في غاية الصعوبة؛ لأن الصلح أمر اختياري وليس إجباريا في الشريعة الإسلامية، وكذلك في القوانين الوضعية، مضيفاً أن غياب أدوار اجتماعية كثيرة أدى إلى تساهل الناس في اللجوء إلى المحاكم على أتفه المنازعات والخصومات، بل وأخفى دور كبار الأسرة وأقاربها في المنازعات الأسرية، إضافةً إلى دور شيخ القبيلة في المنازعات بين أفراد القبيلة الواحدة، ودور عمدة الحي في منازعات أفراد الحي الواحد، بل وحتى دور المدير في العمل في النزاعات التي تنشأ بين زملاء العمل الواحد. قضايا بسيطة يمكن حلها صلحاً بين المتخاصمين وتمنح الذات قيم التسامح و«العفو عند المقدرة» إبراء الذمة وشدد «د.أحمد الصقيه» -مستشار ومحام- على ضرورة ترسيخ مفهوم الصلح في المجتمع كثقافة، حتى يكون أحد وسائل الحصول على الحق أثناء وقوع المنازعة، بل لابد من ترسيخه عبر التوعية والتثقيف، مضيفاً أن الإسلام عظّم أمر الصلح، مبيناً أن للصلح آثارا كبيرة إيجابية، من أهمها براءة الذمة، مبيناً أن الصلح هو إبراء للذمة، بل وإبراء للعلاقة، مشدداً على ضرورة أن يكون عمل المصالحة عملا مؤسسيا، وتطوير هذا العمل لابد أن يطال التشريعات والتطبيق والإجراءات، وكذلك يطال الممارسين لعمل الصلح، وذلك ما أشارت إليه تجارب دولية، حيث أوضحت أن ممارسة المصالحة كبديل من أبرز بدائل فض النزاعات، مشيراً إلى أنه لابد أن يتحول هذا العمل إلى مؤسسي ومهني داخل إجراءات العمل، مع وجود طريقة تنظيمه والقائمين عليه، موضحاً أن هناك فنونا في عملية المصالحة والمفاوضة، ولابد أن يطلع العاملون عليها ويلمون بها، فهناك شهادات واعتمادات لابد أن يحصلوا عليها قبل أن يخوضوا في هذا العمل، لافتاً إلى أن نسب ضخمة جداًّ من النزاعات في بعض الدول تم حلها عبر الوساطة والتوفيق والتصالح، ففي «سنغافورا» (90%) من القضايا تنتهي عبر الوساطة، مشدداً على أهمية نقل تجارب هذه الدول؛ للإفادة من خبراتهم بطرق لا تخالف الشرع. تفعيل مكاتب الإصلاح في المجتمع يقلّل من النزاعات ترسيخ المفهوم وأوضح «د.الصقيه» أن هناك ما يسمى ب»قضاة الصلح»، وهم مستقلون عن القاضي، مضيفاً أنهم ينظرون في القضية ويسعون في الصلح، متأسفاً على أن المفهوم الشائع لدينا أن من يسعى إلى الصلح هو الأضعف، وذلك غير صحيح؛ لأن في الإسلام يوجد ما يسمى بالمصالحة على إنكار، مبيناً أن قاضي الصلح يتحدث إلى المتنازعين بكل ما لديهم، وهم على علم أن ما يتحدثون به لن يتم نقله للقاضي، مشيراً إلى أنه بذلك تكون قدرة الناس على التفاوض أعلى، فحينما يكون هناك مكاتب متخصصة للصلح وأناس متخصصون، فإن ذلك سيمكن من ترسيخ مفهوم الصلح لدى المجتمع، موضحاً الدور الكبير الذي تؤديه مكاتب المصالحة في القضاء العام في وزارة العدل، حيث إن لديهم تجارب ناجحة في فض نزاعات الطلاق وخلافات زوجية، إلاّ أن العمل يحتاج إلى مزيد من التطوير، ذاكراً أن حق التقاضي مكفول للجميع، ولكن الدعوى إلى مزيد من التنظيم لاتعني إسقاط ذلك الحق، ولكن حينما يشاهد المجتمع آثار الصلح بأنه سريع في إجراءاته، فسيكون لذلك آثار إيجابية على استثمارات المرء واقتصاده، لافتاً إلى أن المصالحة لها أثر كبير في سمعة التاجر، فهي تكشف على مدى شفافيته، وأنه لا توجد لديه نزاعات أو خصومات، وكذلك داخل الأسرة له أثر في واقع الطلاق. د.أحمد الصقيه تعزيز الروابط ورأى «د.صالح العقيل» -باحث اجتماعي- أنه كلما كبر المجتمع واتسع، كلما قل الترابط الاجتماعي فيه من حيث الود والرحمة والتعاطف، وكلما صغر المجتمع حدث العكس من الترابط والتكافل، ليسود التسامح، مضيفاً أنه حتى لو حدث الخلاف يتدخل البعض في حفظ تلك المنازعات، فالقيمة الاجتماعية ترتفع بخلاف المدن التي تعج بالحراك، والتي يصبح فيها التقارب منعدما، ثم التأثير السلبي على التسامح وتواصل الفرد بالآخر، موضحاً أن تعزيز الروابط الإسلامية يؤدي إلى تعزيز الروابط الوطنية، والتي بدورها تعمم مفهوم الترابط بين الجميع، وذلك يحتاج إلى برامج من الجهات المعنية تدعم وتعزز هذا الجانب لدى المجتمع، مشيراً إلى أن المجتمع ينظر إلى من يلجأ إلى المحاكم في جميع خلافاته «نظرة سوداوية»، على اعتبار أنه «الشخص الشكّاي» وصاحب مطالب، وربما يوصف أنه «فاضي»؛ لأن أصغر مشكلة تصادفه يذهب إلى القضاء، ذاكراً أنه على الرغم من أن ذلك حق من حقوقه، لكن يجب أن يعود إليه حينما لا يستطيع إيجاد الحلول البديلة، فليس من العدل أن نأمر الآخرين بالتخلي عن حقوقهم، ولكن لابد من إيجاد الحلول في فض تلك المنازعات، مؤكداً على أن تخفيف الضغط على الجهات المعنية أمر جيد، خاصةً مع انشغالها في قضايا كبيرة، لافتاً إلى أنه حينما يشتكي الفرد، فإن تحديد موعد تلك القضية قد يأخذ أشهر طويلة، وقد تتفاقم المشكلة بين الأطراف المتنازعة، مبيناً أن الفرد يعايش تلك القضية نفسياً، فيكبر الشعور بالغضب، وحتى إن حدثت من المحكمة محاولات للصلح، فإنه هنا يرفض ذلك؛ لأنها تضخمت بداخله لمدة أشهر من الانتظار. أحمد المالكي قاضي الصلح وأكد «فهد محمد الحميزي» -مستشار أسري ومحكم معتمد من وزارة العدل وخبير بقضايا الأحوال الشخصية- على أن القاضي الذي ينهي قضاياه بالصلح، يُعد ناجحاً في عمله، مبيناً أنه حينما تكاثرت تلك القضايا أصبح من الضروري إنشاء مكاتب للصلح، وبدأت وزارة العمل بتوفير مكاتب في المحاكم الرئيسة، إلاّ أنه للأسف بعضها كانت احتسابية فقط، حيث تم تزويدها بموظفين ليسوا مؤهلين بدورات في الإصلاح الأسري. وقال إن القضية تأتي إلى المستشار بالصلح قبل أن تحال للقاضي، وذلك خلل في الإجراءات، فالواجب أن يُحيلها القاضي إلى الصلح؛ لأنه بقوته -التي كفلها له النظام- يوجد حل وصلح، قبل أن ترسل لمكاتب الصلح الموجودة، مضيفاً أن بعض القضاة لا يتعاملون مع مكاتب الصلح بشكل يرتقي إلى الحكمة من وجودها، والدليل على ذلك قضية خلع لم يتم حلها إلاّ بعد مرور أكثر من عام، وكأن الخروج برأي صُلح هو من باب الإجراءات الروتينية، مؤكداً على أن مكاتب الصلح الموجودة لا تفي بالغرض، وكذلك بعدد القضايا الكبير الموجود في المحاكم، ف(60%) من القضايا الموجودة قضايا في الأحوال الشخصية والخلع والحضانة، وتلك لا يكفيها مكتب واحد أو اثنين للإصلاح، مقترحاً أن يكون هناك تنسيق بين وزارة العدل وبين مكاتب خارجية مهتمة بالاستشارات الأسرية والإصلاح بين المتخاصمين، لتحال من المحكمة وتكون رسمية، وبها أناس مؤهلون علمياً وتربوياً بل ولديهم الخبرة، حتى تسهم في حل الخلافات.