تحتل الأخلاق موقعاً أسمى في سُلم أولويات الاهتمام الإنساني ، منذ أن وُجد الإنسان ، ولا تزال، أدرك الإنسان الأهمية الكبرى للأخلاق في حياته ، سواء أكان مصدر هذا الإدراك حاجة فطرية أولى (حاجة داخلية - ضمير داخلي - باعث ما ورائي) ، حاجة مرتبطة بالوجود الفردي ، أم كان المصدر هو الوِفاق المجتمعي الصادر عن تصور براجماتي خالص (المراد هنا : مادي خارجي) مرتبط بالوجود المجتمعي ، أي عن تصور منفصل عن الضمير أو الما وراء . لا يوجد دين سماوي ولا غير سماوي ، كما لا يوجد نظام مجتمعي ، ولا قانون أرضي / مدني يمكن أن يتهاون ، فضلا عن أن يُجيز ممارسة السرقة أو الكذب أو الغش ؛ لأنها ، كلها ، صورة من صور الاعتداء على الآخرين ، الآخرين الذين لم تتأسس الأخلاق إلا للحفاظ على حقوقهم ؛ على الرغم من كل الاختلافات التي تتخلل تفاصيل التصورات في هذا المجال لا حياة بلا أخلاق ؛ فالأخلاق حاجة إنسانية مُلحة لا سبيل إلى تجاهلها في كلا المستويين : الفردي والمجتمعي . ولأنها حاجة بهذه الدرجة من الإلحاح ؛ كانت دائما تتصدر اهتمام كل الرسالات السماوية ، بل وكل الديانات الأرضية / البشرية ، فضلا عن الأبنية الفلسفية الكبرى . فمن المعروف أن مبحث الأخلاق أو الأكسيولوجيا من أبرز المباحث الفلسفية التي أرّقت الفلاسفة العظام على امتداد العصور ، منذ بدايات التفلسف الإنساني ، كان كذلك ولا يزال . مركزية الأخلاق في السياق الخاص بالأديان (السماوية ، وغير السماوية) أمر ظاهر وحاضر ؛ بقدر ما هو طبيعي ، حتى لتكاد تكون الإشكالية الأخلاقية هي (كل شيء) في بعض الأديان . لكن ، ما يؤكد أهميتها وضرورتها للكائن الإنساني في سياق وجوده الإنساني الخالص ، هو أن الفلسفات المُتخفّفة من هموم الماوراء ، بل وحتى تلك المُتنكرة أو المُنكرة لهذا البُعد الماورائي ، قد وضعت الأخلاق (على الأقل من حيث هي نظام اجتماعي) في صلب اهتمامها ، واشتغلت على مسألة مصدرها (= مصدر الأخلاق : إلهية أم إنسانية ، فردية أم مجتمعية ...إلخ) ، وعلى العلاقة بين القيم ، وعلى مجال فاعليتها ، وعلى استقلالها في الوجود من عدمه ، وعلى مستويات فاعليتها ، أو تفاعلاتها البينية ، وعلى ضوء العلاقة الجدلية التي تربطها بالواقع ..إلخ . والذي قرأ تاريخ فلسفة الأخلاق ، يرى أن الأخلاق تكاد تعادل الإنسان ذاته ، أقصد : الإنسان الذي وصفه بعض الفلاسفة بأنه : حيوان أخلاقي . فالأخلاق ، كقانون داخلي ، جعلها الفيلسوف الألماني العظيم : كانط ، دليلًا على وجود الله ؛ وفق مقتضيات العقل العملي لديه، لا العقل النظري المحض . بل حتى الذين ربطوا الأخلاق بالمنفعة ، لم ينكروا كون منفعيتها مرتبطة بخصوصيتها الإنسانية . أي بخصوصية : أن وُجود الوازع الأخلاقي الداخلي دليل على أن الإنسان كائن متجاوز للمادة ، فلايمكن - حينئذٍ - أن يكون في علاقته بها (= المادة) ، محددة في أنه : منها بدأ وإليها يعود . الحيوان يستطيع أن يعيش من أول حياته إلى آخرها بلا أخلاق ، بينما لا يستطيع ذلك الإنسان ؛ إلا بأن يتحطم الإنسان فيه ، فلا يبقى منه غير : صورة إنسان . لا ريب أن الاشتغال على الأخلاق في سياق التفكير الإنساني النظري يتسع لملايين الصفحات التي سوّدها بنو الإنسان على مر العصور . ما أقلق وأرّق كثيرا من المفكرين والمصلحين هو ذلك الفصام النكد بين الخطاب النظري من جهة ، وبين التطبيق العملي له من جهة أخرى . أرسطو ، ومنذ أكثر من ألفي عام ، واجه هذه المعضلة بأن ربط - منذ البداية - فلسفته الأخلاقية بالمجتمع من جهة ، وبالتطبيق العملي لها من جهة أخرى ، وذلك حينما أكد على أن الإنسان لا يكون مُتحلياً بالفضيلة إلا إذا مارسها عمليا ، وأن القناعة النظرية المجردة من الممارسة لا تمنح صاحبها درجة استحقاقها ؛ مهما كان الإيمان النظري قوياً ، بل ومهما كان قائماً على البرهان ! . من الواضح أن أقدم وأرسخ القيم الأخلاقية هي ما يدخل في باب المشترك الإنساني ؛ لأن في هذا دليلًا على ارتباطها الأصيل بالإنسان ، أي بالإنسان من حيث هو إنسان ؛ منذ أن وُجد الإنسان . يظهر ذلك في تحريم الظلم ، ومنه تحريم القتل والسرقة ، وتحريم الكذب والغش ، إذ يبدو هذا التحريم وكأنه من أقدس المشتركات الإنسانية ، سواء أكان مصدرها الأديان ، أم فِعل / اجتراح الإنسان للإنسان . لا يوجد دين سماوي ولا غير سماوي ، كما لا يوجد نظام مجتمعي ، ولا قانون أرضي / مدني يمكن أن يتهاون ، فضلا عن أن يُجيز ممارسة السرقة أو الكذب أو الغش ؛ لأنها ، كلها ، صورة من صور الاعتداء على الآخرين ، الآخرين الذين لم تتأسس الأخلاق إلا للحفاظ على حقوقهم ؛ على الرغم من كل الاختلافات التي تتخلل تفاصيل التصورات في هذا المجال. هذه القيم (= تحريم القتل والسرقة والكذب والغش ..إلخ ) مُعترف بها حتى في أشد الأنظمة ارتباطا بالتفسير المادي للإنسان ؛ لأن الجميع يعرف أن بعض صور (التحلل الأخلاقي) غير مُجرّمة في بعض المجتمعات قديما وحديثا ، بينما خضع فعل الإقدام على القتل أو السرقة أو الغش أو الكذب للتجريم والإدانة في كل المجتمعات ، وعلى امتداد كل العصور ؛ ما يدل على أنها من المحرمات الأبدية بمعيار السماء ، وبمعيار الأرض أيضا ، وأنها الأبشع من كل ما تبقى من صُور الاختراق للبناء الأخلاقي العام . عندما تم الحكم على (المُنتحل / السارق) الذي سرق كتابا مطبوعا ومعروضا في وضح النهار ، كان فرصة استثنائية لقراءة نظام القيم لمجتمعنا من خلال قراءة طبيعة تلقي هذه الجريمة النكراء من قِبل الجماهير . لا شك أن القراءة الأولى مُفزعة ، إذ رغم الغضب الفكري والأكاديمي من هذا السلوك الشائن ، إلا أنه لم يكن غضبا جماهيريا عاما بحيث يُوازي جماهيرية السارق التي انتهكت حرمات العلم والعلماء . أي أن الجماهير التي تعكس حقيقة حركة الوعي والأخلاق في المجتمع اكتفت برفض هذا السلوك (= السرقة ) بينما أبقت المنتحل / السارق في مكانته الاعتبارية التي كانت له من قبل ، وكأنه لم يقم بعمل يدخل في صميم انتهاك أقدس المقدسات ؛ خاصة وأنه (= المُنتحل / السارق) يتلبس لبوس المقدس الديني ، ويُقدم نفسه ، كما يقدمه غيره ، بوصفه داعية ومصلحاً في ميدان الدين والأخلاق!. السؤال المحرج والمُقلق في آن : ماذا لو كان الفاعل غيره ، وماذا لو كانت الجريمة لا تنتمي لسياق : السرقة العلمية ، وإنما لمجال أخلاقي آخر (لمجال ذي حساسية تقليدية)؟ حينئذٍ ، كيف سيكون التلقي الجماهيري لهذا السلوك الذي ينتهك حرمة المجتمع بانتهاكه لحرمة الأخلاق التي توافق عليها الجميع ؛ كضمانة للجميع ؟ لاشك أن الإدانة ستكون صارخة وقامعة من جهة ، ولا شك أنها ستحظى بالإجماع المجتمعي ؛ بحيث لا يستطيع المجرم / السارق / المنتحل أن يُقدم نفسه في أية فاعلية اجتماعية ذات بُعد أخلاقي ، حتى ولو أعلن توبته النصوح على رؤوس الأشهاد . لكن ، اليوم يخرج السارق كاتبا ومحاضرا ؛ وكأن شيئا لم يكن !. بل يخرج متدثرا بدفاع البسطاء أو الأغبياء أو المُؤدلجين عنه . بعضهم (من مُحبيه ومريديه) حاول الدفاع عنه في حادثة سرقة الكتاب الذي حُكم عليه فيه ، ولكن كان دفاعاً بما أثبت عليه السرقة كسلوك عام ، من حيث أراد نفيها عنه في واقعة خاصة : سرقة الكتاب . قال المُدافع : إن الذنب ليس ذنبه ، وإنما هو ذنب المجموعة التي تعمل له ، فهي سرقت الكتاب ، وهو وضع اسمه عليه ، ولو علم أن المادة مسروقة بالكامل ؛ لما رضي أن يوضع اسمه على الكتاب ! . والسؤال هنا : كيف يكون المُنتحل مؤلفاً لكتاب لا يعرف محتواه ، كيف ينسبه لنفسه ، حتى ولو كان الذي كتبه وأعده ونسقه مجموعة تعمل لديه ؟! إذ يبقى السؤال الأخرقي : هل يكتبون له ، ويكتفي هو بأن يضع اسمه على الغلاف ، ويدفعه إلى المطبعة ؛ دون أن يعرف من أين كتب معاونوه ما كتبوا ، خاصة وأن السرقة طالت كتابا كاملا ، وليس مجرد كلمة أو جملة عابرة ، أو مقولة في سطرين ؛ بحيث يمكن أن تُحال إلى نسيان التوثيق ، أو إلى توارد الخواطر ، أو عمومية المعلومة وشيوعها ؟ أي أن السؤال الآن ، بعد هذا الدفاع الغريب ، انتقل إلى ما يتجاوز سرقة كتاب ، انتقل إلى كل ما يُنسب إلى المُنتحل من كتب كثيرة هي اليوم تُباع باسمه ولاسمه : هل كتبها ، أم كتبها مُعاونوه ؟ وهل ستتوالى الفضائح إلى أن تصل إلى كونها فضيحة اسم / مُؤلِف ، وليست مجرد فضيحة كتاب ؟ المُنتحل / السارق كان يُراهن على جهل الناس عندما أقدم على الانتحال . المراهنة على جهل الناس جزء من سلوكه العام ، فهو حتى في محاضراته وندواته دائما يُراهن على هذا الجهل . عندما تسمع له أو تشاهده يحاضر ، تجد في كل مقطع كيف تتزاحم جملة من الأخطاء التي لا يعرفها إلا من يعرف أصول الحكايات التي يسردها والنصوص الأولى للشعر الذي يستشهد به ، والمتون الصحيحة للأحاديث النبوية الشريفة . دائما ما تجده يخلط بين قصة وأخرى ، يخلط بين ما حدث في غزوة خيبر، وبين ما حدث في غزوة حنين ، وما حدث في أحد يضعه في بدر أو الخندق .. إلخ غواية الخلط ، كما أن الأسماء تتبادل مواقعها نتيجة جهل وتجميع عشوائي يتسع باتساع عشوائية ذاكرته ، والشعر أيضا تتبدل فيه الكلمات بكلمات أخرى ، بل وتختلط النصوص بنصوص أخرى ، كما يفعل بالأحاديث تماما، والمستمع أو المشاهد في كل هذا يفتح عينيه ومَسمعيه مبهوراً بتوالي النصوص ، ولا يعي حجم الأخطاء الشنيعة التي تتخللها إلى درجة إفساد معانيها ودلالاتها. كل ذلك بطبيعة الحال نتيجة جهل وعشوائية من جهة ، ومحاولة يائسة للإغراب ، ورفع وتيرة الانجذاب العاطفي للفكرة المراد ترويجها من جهة أخرى ، أي نتيجة أزمة جدارة ، وليس نابعاً من سوء قصد ، كما هي الحال في قضية سرقة الكتاب التي أصبحت حديث الإعلام . من المهم التأكيد على أن ما قام به هذا المنتحل ، لا يجوز أن يعمَّم على تيار بأكمله . السرقة كواقعة ، كما هي الحال في أية جريمة ، يمكن أن تصدر عن أي فرد ؛ بصرف النظر عن طبيعة انتمائه الإيديولوجي أو السياسي أو الاجتماعي . السرقة هنا جريمة فردية لا تتعدى حدود الفرد ، ولا علاقة لها بتياره ؛ حتى ولو كان تياره مستميتاً في الدفاع عن سرقاته . هذا الدفاع خلل آخر ، مهما كان كبيرا ، إلا أنه لا علاقة له بذات الجريمة : السرقة / الانتحال . طبعا ، يلاحظ المهتمُ بالقراءة المتأنية لما يحدث داخل التيارات الحركية المتشددة ، أن هناك حركة استنفار كبرى ، حركة متهيجة على خلفية مسألة تجاوز فردية هامشية عابرة ، مسألة تافهة لا ينبغي الالتفات إليها ، فضلا عن الاشتغال عليها بهذا الزخم الكبير من الانفعال . لكن ، ورغم هامشية هذه المسألة الفردية ، والتي يجب أن تُعالج في حدود فرديتها ، إلا أننا نلاحظ ، وبوضوح ، أنها مسألة يجري تصعيدها من تيار معين ، بحيث يُراد لها أن تكون اشتغالا جماهيريا عاما ، اشتغالا يغطي على حادث : الانتحال / السرقة / الغش العلمي الذي وقع فيه أحد الرموز الكبرى لهذا التيار الحركي ، التيار الذي يسعى لصيانة رموزه الاعتبارية من السقوط المفضوح ، ولو بافتعال الصراعات الهوجاء التي لا يُراد منها - في أحسن الأحوال - غير الإلهاء عن قضايا أهم وأولى باهتمام الرأي العام ..