المغامرة غير المحسوبة عبثٌ بمسار تحوّل لم يبدأ بعد، وإن كانت ملامحه توحي أن ما يحتاجه فقط هو الفرصة والدعم الكافي... مع بقاء ورقة الميدان في يد الثوار فهي الضمانة لاستكمال أهداف ثورة مازالت تحمل الكثير من المبشرات رغم المصاعب والتناقضات أن تكون في القاهرة يوم 25 يناير 2011 وما تلاه من أيام، فهذا يعني أنك تشهد حدثاً تاريخياً ربما لن ترى مثيلًا له في حياتك مرة أخرى. وأن تعود بعد عام لتتجول في ميدان الثورة فأنت أيضا تستعيد مشاهد وأحداث وتطورات عام ليس ككلّ عام. وأن تأتي هذه الفرصة في مناسبة ثقافية كمعرض القاهرة للكتاب، فأنت حتماً أمام فرصة أخرى ربما يكون من المبكر اكتشاف تأثير هذا الحدث الكبير على منتج ثقافي إلا أنه حتماً سيقدم مؤشرات من نوع أو آخر. ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير بمناسبة مرور عام على الثورة ليس هو ميدان العام الماضي. جمهور هذا العام خليط من شباب ثائرين وعاطلين، ومتشردين وبائعين جوالين. هو أشبه بكرنفال حيث تتعدد المنصات وتتعدد الهتافات، وتتصادم وتتعارض التوجهات. التوترات الكلامية بين حشود جمعتها ثورة 25 يناير فرقتها حسابات المرحلة وقراءتها ونتائجها. قبل عام كان ثمة حلم باهر يحمله شباب مصمم على فكرة التغيير. قد لا يعرف كيف تمضي به أيام الميدان.. إلا أن السائد آنذاك هو التوافق المذهل والحشد المنسجم والبذل غير المسبوق أمام هدف كبير ومكلف لكنه يبدو كحلم مبهر فائق التألق والتأثير. هذا العام يختلط الحابل بالنابل، يختلط البائع الجوال بالثائر، يختلط المتفرج بالمناضل، يختلط الذي وجد في الميدان تنفيساً لواقع بائس بالسياسي الذي يراقب المشهد بحذر أو يحرض عليه لحصد مزيد من النقاط. أخرجت الثورة أجمل وأنبل ما في الإنسان المصري، لكنها ايضا أفرزت نزعات الانفلات والفوضى. حوادث الانفلات الأمني، وحرق المنشآت، والتراشق الكبير على مستويات كثيرة والاتهامات المتبادلة، خلطت أوراقاً كثيرة، وجعلت كثيرين يتوقفون عند تخوم الإيمان بقيمة الثورة، وأهمية الحفاظ عليها .. والخوف الكبير من مسارات يمكن أن تؤدي بمصر كلها إلى أزمة طويلة ومكلفة. ظاهرة البلطجة في بعض المناطق، وحوادث الانفلات الأمني، والسطو على أموال البنوك وكارثة بورسعيد التي أعادت عشرات الشباب المراهقين إلى ذويهم بالقاهرة جثثاً.. حوادث ظلت تستعيد المؤامرة على الثورة، سواء جاءت ممن يُدعون بالفلول أو جهات خارجية أو داخلية.. وبطريقة تخلو من أي نزعة نقدية للذات المتورطة في توفير فرص الإخفاق. أليست تلك ظواهر متوقعة في ظروف خاصة تهاوت فيها سطوة الأمن.. هل بالضرورة أن تكون مؤامرة.. وإن كانت، فهي تعمل في بيئة تجد قبولًا وإمكانية للعمل في وسط اجتماعي ليس من الصعب أن تجد فيه كثيرين يحملون استعداداً للتورط في تلك الحوادث وإشعال فتيلها؟ النظم القمعية التي طال الدهر عليها وهي تخفي التناقضات الاجتماعية تحت سطوة الأجهزة الأمنية... سبب رئيسي في شيوع ظاهرة الانفلات الأمني. ليس بالضرورة أن تكون هناك فلول تغذّي هذه الحوادث المربكة والخطيرة من اقتحام البنوك وسرقة سيارات الأموال، وقتل المشجعين في ملاعب كرة القدم.. النظم القمعية اذا انكشفت غُمتها، فهي ترحل بأكثر أدواتها أهمية وهي قبضتها الأمنية المخيفة.. وحينها تظهر على وجه السطح آفات الحرمان والفقر والجهل.. وهي شروط البيئات التي تفرز كل نزعات الفوضى والسطو وحتى القتل. كما أنها قضايا توحي بغياب منظومة أخلاقية تتهاوى فيها قيم الحلال والحرام، والحق والباطل وينام طويلا الضمير الأخلاقي. البيئات المثالية لإحداث القلاقل والخروقات الأمنية والإشغال المستمر حتى في ظل الثورة ومن أجلها وباسمها أحيانا، هي البيئات التي تراكمت فيها خلال عقود آفات الجهل والفقر والقهر الاجتماعي.. وكانت تقاوم نزعتها للانتقام من المجتمع تحت سطوة قهر السلطة وتكريس أدواتها الامنية وهي لم تتورع أن توظف تلك البيئات مرات وتقمعها مرات كثيرة. وإذا صدقت تلك الارقام التي تتحدث عن مئات الألوف من المشردين وأطفال الشوارع في القاهرة وحدها، فلماذا يُستغرب أن تكون تلك أدوات قاتلة لمشروع ثورة، التي لم تقطف ولن تقطف ثمارها في ظل أجواء التعطيل والتأزيم الذي حتما يستفيد منه أعداء الثورة وخصومها. ما تحتاجه مصر ليس فقط استعادة الأمن عبر إعادة هيكلة وزارة الداخلية، وإعادة انتشارها مجددا بقبضة القانون لا قبضة السلطوي.. إنها تحتاج لمشروع اجتماعي كبير لإنقاذ تلك الملايين الواقعة تحت ضغوط الجهل والفقر.. إنها القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تفجر تلك التناقضات بشكل لا مثيل له وربما تعطل المسار السياسي للثورة الوليدة. إن وقود الثورة هم الشباب الذين أشعلوا فتيلها، ولكن من يحطم الثورة ويعطل مشروعها السياسي ويحول دون بناء نظام مستجيب هم أيضا شباب من نوع آخر سهل الاختراق وسهل التوظيف وسهل الاستجابة ويملأه شعور كبير بالتهميش والإلغاء. ليس بالضرورة أن يكون في مصر أو غيرها مئات الالوف من رجال الأمن المركزي في كل شارع وناحية.. يمكن للكفاءة أن تغني عن جموع فقيرة وعاجزة حتى من رجال الشرطة. كلفة رجل الأمن المركزي الرخيصة لن تحول دون انفلات الأوضاع بعد أن انكسر حاجز الخوف. ما يعيد لمصر ملامح الدول المدنية التي تنشد التقدم والحضور على وقع ثورة عظيمة على نظام التعطيل هو إعادة بناء مجتمع يتوسم العدالة الاجتماعية وتحقيق الكفاية، وإعادة صياغة عقل اجتماعي وفق منظومة قيمية تركت للشارع طويلا بكل مآسيه ومخاوفه ومآزقه وانحرافاته. وخلال سنوات عدة زرتُ فيها معرض القاهرة للكتاب.. كان مشهد رجال الأمن المركزي وضباطه المنتشرين في أرجائه، وسيارته الكبيرة السوداء التي تشبه الزنزانات المتنقلة توحي لي بالتناقض بين مشروع ثقافي، ومشروع عسكرة تقبض بالعصا وتتحفز للانقضاض. هذا العام لم يكن ثمة شيء من هذا .. كنتُ أرقب ظاهرة جميلة.. معرض كتاب دون زنزانات متنقلة.. ولم يكن هناك سوى الانضباط والهدوء.. حتى المشاجرات العابرة غابت بين بائعي الكتب القديمة والرخيصة الذين يحتلون مكاناً في الفضاء الطلق.. أثق أن من يأتي لمعرض كتاب لن يكون سوى شغوفٍ بالكتاب.. ومن يكن شغوفاً بالمعرفة لن يكون مشروع تهور أو انحراف أو إثارة شغب. أليس هذا النموذج يمكن إسقاطه على مجتمع بأكمله. من يتغذى عقله بالمعرفة والفكرة ويتوق لتنمية وعيه لن يكون عصا في يد فلول، ولن يكون مشروع انفلات عصابي، ولن يكون مدسوساً وسط مظاهرة صاخبة لازالت تنادي بإسقاط حكم العسكر!! الديمقراطية لن تكون مشروعا ناجزا على حامل السياسي وحده دون أن يتلازم معها تطور اجتماعي وثقافي وفكري. التركيز على التغيير السياسي وحده يصطدم بحقبة من عتمة التجهيل وانطفاء شعلة التنوير الثقافي والمعرفي التي تتعايش في حواضن الفقر والقهر والاجتماعي. ليست المشكلة في بقاء ورقة الميدان في يد الثوار الشباب. فهذه ضرورة لمراقبة المسار وتصحيحه باستمرار. المشكلة هي في المواجهات غير المحسوبة التي لايمكن لشباب الثوار الصادقين في أهدافهم ومشروعهم أن يحولوا دونها. المشكلة في انكشاف غمة نظام وتهاوي قبضته الامنية التي أتاحت الفرصة لجموع لا تحمل سمات الثوار وملامحهم.. ولكنهم يساقون نحو مواجهة ربما عطلت مساراً أو حشدت قوى اجتماعية متضررة للوقوف في وجه ثورة مازالت غضة ووليدة.. المغامرة غير المحسوبة عبثٌ بمسار تحوّل لم يبدأ بعد، وإن كانت ملامحه توحي أن ما يحتاجه فقط هو الفرصة والدعم الكافي... مع بقاء ورقة الميدان في يد الثوار فهي الضمانة لاستكمال أهداف ثورة مازالت تحمل الكثير من المبشرات رغم المصاعب والتناقضات..