لطالما عجّ ميدان التحرير بعشرات الباعة الجائلين الآتين من كل حدب وصوب لترطيب القلوب بمشروبات باردة. نشاط تجاري متوقع في هذا الصيف القائظ. باعة مسدسات الصوت ورذاذ الفلفل يبيعونها جهاراً نهاراً. تجارة أخرى تزدهر في ظل الغياب الأمني وضياع هيبة الشرطة. لكن تلك ليست السلع «الثورية» الوحيدة. فأرصفة وسط القاهرة، وطبعاً رفوف مكتباتها، عامرة بكمٍّ هائل من الكتب الجديدة التي أُلّفت في عجالة، عن الثورة المصرية، ولها، وحولها. وهذا نشاط تجاري إضافي يرتدي ثوب الثقافة والتأريخ، لكن التاريخ وحده سيحكم على هذه المؤلفات التي صدر بعضها كما الوجبات سابقة التجهيز، فيما البعض الآخر وجبات نيئة لم يتسنّ لها أن تنضج. «الهلس» «عمّ سيد» بائع صحف وكتب، يفترش أحد أبرز أرصفة وسط القاهرة. كان حتى سقوط النظام السابق يعتمد في مبيعات الكتب على ثلاث فئات، لا رابع لها. كتب الطهو لربات البيوت، روايات العشق للمراهقات، ومؤلفات ذات نكهة إباحية أو على الأقل توحي أغلفتها بمحتوى «ساخن». لكن الثورة أتت بما لم يتوقعه «عم سيد». يقول: «لم أتوقع يوماً أن أبيع كتباً سياسية، وحتى إن توقعت، فلم أحلم بأن يشتريها أحد، وإن حلمت فلم أتخيل أن يُقبل عليها شباب لم يُقبلوا يوماً على قراءة شيء غير الهلس (أي ما ليس له قيمة بالعامية المصرية)». لكن ما لم يتنبّه إليه «عمّ سيّد» هو أن «الهلس» ليس حكراً على روايات العشق وتلميحات الإباحية. فهناك من «الهلس» ما هو اقتصادي وسياسي وتاريخي أيضاً. وهناك من الصحافيين من سارع إلى جمع عدد من المقالات ووضعها في كتاب سريع ليلحق بمؤلفات الثورة التي هي شعار المرحلة. واستخرج آخرون مؤلفاتهم القديمة، وأخضعوها لعملية إعادة تدوير لتتناسب ومعطيات الثورة وقراءاتها و«الأدرينالين» الذي يحمّس الناس للقراءة عنها وهي في طور التشكيل. وكان لهم ما أرادوا! فارتفعت نسبة مبيعات كتب الثورة، لا سيما تلك المعروضة في مكتبات وعلى أرصفة وسط القاهرة، القريبة من موقع الأحداث المتلاحقة في ميدان التحرير منذ تفجر الثورة في كانون الثاني (يناير) الماضي وحتى هذه اللحظة. يقول «عمّ سيد»: «أيام الجمعة المتلاحقة، من تطهير وتغيير وتأييد ورفض وتنديد وتشجيع وغيرها، أدت إلى بروز فئة جديدة من القراء ال «تيك أواي»! ويفسّر «عمّ سيد» بروفيل «القارئ تيك أواي» بأنه قارئ الصدفة، الذي نزل إلى الميدان للفرجة، أو من باب العلم بالشيء، ومعه زوجته أو صديقه. يقول: «مثل هذا القارئ ليس محترفاً! هو من الغالبية الصامتة المبهورة بالثورة والثوّار. لا يدقق كثيراً في اسم المؤلف، أو فحوى الكتاب، أو حتى الغرض منه. لكنه ينزل إلى ميدان التحرير يوم إجازته أو لتمضية يوم، وفي طريق العودة يعرج على منطقة وسط القاهرة ليتناول مشروباً أو سندويش فول لتكتمل الرحلة، وفي أثناء سيره يلفت انتباهه عنوان طريف أو مثير، يتناول الحدث الأبرز والأهم في مصر وهو الثورة، فيشتري الكتاب كما يشتري تي- شيرت الثورة أو ملصق الشهداء أو دبوس الحرية». صدر الكثير من كتب الثورة، من الفئة هذه، منذ تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم. بعضها يزهو بأنه يحوي أسراراً تنشر للمرة الأولى عن الساعات الأخيرة في قصر الرئاسة، قبل مغادرة مبارك وأسرته إلى شرم الشيخ، أو معلومات لم تنشر بعد عن الفلول والأذناب، أو حقائق ملفات أمن الدولة، وغيرها من الأسرار التي لا يعقل أن يُكشف عنها إلا بعد مرور سنوات طويلة، وليس بعد اندلاع الثورة بأسابيع! بحنكته وخبرته في بيع الكتب الممنوعة، وقدرته الفطرية على معرفة الغث الذي لا يبيع، بصرف النظر عن أهميته الأكاديمية، والسمين الذي يبيع بصرف النظر عن تفاهته وضحالته، يقول «عمّ سيد»: «حين تريد أن تبيع كتاباً إباحياً من دون أن تضع كلمة صريحة على الغلاف، الجأ إلى كلمات وعبارات مثل «ليلة الدخلة» أو «شهر العسل» أو ما شابه. وإذا أردت أن تبيع كتاباً عن الثورة قبل أن تكتمل أو يظهر لها صاحب، اكتب عن الأسرار أو المفاجآت أو الوثائق المحترقة! الفرق بين النوعين من الكتب، أن تسويق الكتب الإباحية مضمون طيلة الوقت، على عكس كتب الثورة التي تبيع وتزدهر في حمأة الثورة، لكنها سرعان ما تتبخر ولا يبقى سوى الكتب العلمية التي تؤرخ لها وتحللها بجدية، وهذه في رأيي لم تُؤلّف بعد». «تويتس» وأشياء أخرى ولأن الثورة المصرية فجّرها شباب استخدموا «فايسبوك»، بكثرة وكتبوا على المدوّنات بإسهاب، وأرسلوا بريداً إلكترونياً كثيفاً، كان من الطبيعي ألا تفتقر إصدارات الثورة إلى العنصر العنكبوتي. وليس هناك ما هو أسرع ولا أكثر تأثيراً من تأريخ الثورة المصرية ومجرياتها ومفرداتها من خلال ال «تويتس» المرسلة عبر موقع «تويتر». وتحت عنوان «تويتس من التحرير» صدر كتاب في الولاياتالمتحدة، جمع عدداً هائلاً من رسائل «تويتس» التي كانت في مرحلة ما، المصدر الوحيد والأدق والأسرع لما يحدث في ميدان التحرير. ومن أميركا إلى القاهرة مجدداً، حيث تشهد الدوائر الثقافية ندوات وجلسات شبه يومية لمناقشة إصدرات الثورة، هنا بعض العناوين: «مئة خطوة من الميدان: يوميات من ميدان التحرير» للمؤلف أحمد زغلول الشيطي في مكتبة «ديوان»، «يوميات ثورة الصبار» للمؤلف عبدالرحمن يوسف في مكتبة «ألف»، «كان فيه مرة ثورة» للكاتب محمد فتحي ويحكي فيه قصة ابنه عمر عن الثورة التي عايشها وشاهدها حتى لا يتعرض لما تعرض هو له من دراسة لتاريخ مبتور ومشوه، «لكل أرض ميلاد... أيام التحرير» للكاتب إبراهيم عبدالمجيد أوشك على الصدور... والقائمة طويلة جداً. ومع استمرار التحركات والفاعليات، تستمر الأفكار في التدفق إلى رؤوس كُتّاب متفاوتي الإمكانات، كما يستمر «الميدان» في جذب الزوار، باعتصامات أو من دونها، ولا بدّ لأحدهم أن يخرج حاملاً علماً أو ملصقاً أو ربما كتاب من كتب الثورة.