فاز الضدّان بالمرتبة الأولى في اهتمامات المصريين العنكبوتية في عام 2011. إذ تصدّر الرئيس المصري السابق حسني مبارك والميدان الأشهر «التحرير»، قائمة أبرز القضايا والاهتمامات لملايين المصريين في 2011. بلّورة سحر مخادعة ليس هناك ما هو أفضل من معرفة الكلمات الأكثر بحثاً على محرك البحث «غوغل» لإجراء جردة «عنكبوتية» عن اهتمامات الناس في 2011. لو أن مصرياً أمعن النظرة في بلورة مسحورة قبل بضع سنين، ثم تنبّأ بأن «شوية عيال» سيقفون مع مبارك على قدم المساواة ضمن الشخصيات الأكثر عرضة للبحث على محرك «غوغل»، لجرى إتّهامه بالخلل عقلياً، بعد أن يقبض عليه بالطبع. واستطراداً، لقد سقطت هذه «التهمة» بسقوط النظام. وتبيّن أن «شوية عيال» أطاحوا الرئيس. وقبل أن ينصرم 2011، وضع «شوية عيال» أنفسهم على رأس الأحداث في مصر والعالمين الفعلي والافتراضي معاً. في الفضاء الافتراضي، لا تملك الشبكة العنكبوتية قوات أمن مركزي وجهاز أمن دولة ورئيس مجلس شعب «يفصّل» قوانين على مقياس أصحاب السطوة و»يُكيّف» دساتير وفق أهواء أبناء الرؤساء. ولم تجد الإنترنت غضاضة في تبني «شوية العيال»، بل نسبتهم إليها. وتفاخرت بأنها أعطتهم من القوة ما مكّنهم من إطاحة رئيس البلد الأكبر في العالم العربي. وعلى غرارها، أقرّ العالم الفعلي ب «شوية العيال»، الذين أذهلوه. واختارت مجلة «تايم» الأميركية «المتظاهر» شخصية العام 2011، وهي الشخصية التي ساهمت الإنترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية («فايسبوك»، «تويتر»، «لينكدن»...) في صناعتها. في آذار (مارس) 2010، ضمن المؤتمر السنوي ل «مجلة العربي» الكويتية الذي حمل عنوان «الثقافة العربية في ظل وسائط الاتصال»، تحدث كاتب ذائع الصيت، سبعيني من مصر، عن المُدوّنات والمواقع الاجتماعية على شبكة الإنترنت مستخدماً نعوتاً مثل «العشوائية» و«الاغتراب» و«قارة التدوين المجهولة» وغيرها. وفي إطار وصفه حال الشباب وفضاءاتهم الافتراضية، قال: «اكتشفتُ أن المُدوّنات المصرية زاخرة بتحليلات سياسية سطحية، ومُنشغلة بدعوات غير مدروسة للإضراب والتظاهر، بل يدعو بعضها إلى الثورة بخفة وبساطة، من دون معرفة الفوارق بين الإضراب والتظاهر والعصيان المدني والثورة». وأضاف هذا المُحلّل الكبير في معرض إمعانه بالسخرية من الإنترنت وأدواتها ومستخدميها، أنه تذكر كتاباً بعنوان «عندما أسمع كلمة مُدوّنة إلكترونية، أتحسّس مسدّسي» (تأليف كمال حسن ومصطفى الحسيني)، وهو مقتبس من عبارة شهيرة لجوزيف غوبلز وزير دعاية النظام النازي، تقول «حين أسمع كلمة ثقافة، أتحسّس مسّدسي». بل اعتبر هذا المُحلّل أن نسج عنوان الكتاب على غرار العبارة النازية ليس أمراً موفقاً لأنه يوحي بأن المُدوّنات شيء بالغ الخطورة، بل كأن السلطة السياسية ترتعد هلعاً منها! صدّقت حوادث 2011 مقولة هذا الكاتب الكبير، بطريقة لم يتوقّعها، بل على عكس توقّعاته كليّاً. إذ لم ترتعد السلطة السياسية هلعاً من المُدوّنات الإلكترونية، بل أنها سقطت وتهاوت تحت ضرباتها. ومن دون كبير مجازفة، يمكن القول إن أشياء تحدث عنها خبراء ومحلّلون وكُتّاب، مثل «ديموقراطية الإنترنت» و»قدرة الثورة المعلوماتية على تحقيق ما أخفقت فيه الثورات السياسية»، تحقّق في العام المنصرم. وفي المقابل، تزعزعت مقولات أثارت حروباً لفظية واشتباكات ثقافية حول مدى أهلية «الصغار» للإدلاء بدلوهم في شؤون «الكبار» سياسياً، وكذلك المقدار المسموح به ل «شوية العيال» باللعب في مساحات السياسة من دون أن تحترق أصابعهم من دون جدوى. لقد زعزعت «ثورة 25 يناير» هذه المقولات وأطاحتها، قبل أن تنتهي أيام 2011. وعلى رغم أن ولادة هذه الثورة بدت طبيعية، إلا أنها تعثّرت كثيراً. ويرد في البال أن العوامل المساعدة على حدوث الحمل أصلاً، كانت بالغة القسوة. إذ تقاطعت سنوات القهر والاستبداد والفساد، مع انتفاخ متراكم في شريحة الشباب، لأن ثلث سكان مصر تتراوح أعمارهم بين عشرة و24 عاماً. لقد جرى التعامل مع هذه «الإنتفاخة» باعتبارها عرضاً مرضياً يجب مواجهته، تارة بالهجرة غير الشرعية، وتارة بالحرب النفسية ضد جموع ظنّ النظام أنها فئة من متبلدي الإرادة وفاقدي الانتماء والممعنين في التفاهة الذين لا يفقهون إلا قواعد كرة القدم وأصول الغناء الهابط وغيرها من مفردات «أنشودة» النظام السابق عن الشباب، وقد سقط فيها بعض المثقفين أيضاً. لكن تقاطع القهر مع توسّع شريحة الشباب، أسفر عن حمل بثورة، نمت في رحم المجتمع المصري بتؤدة. ظهرت علامات الحمل الأولى في 2004، تزامناً مع ظهور المُدوّنات الإلكترونية المصرية الأولى على شبكة الإنترنت. وبزغ نجم المُدوّنات الرقمية السياسية، على رغم تدفّق فيوض من المُدوّنات الإلكترونية المصرية. وأبدع المُدوّنون (اسمهم «بلوغرز» Bloggers ، نسبة إلى كلمة «بلوغ» Blog التي تعني مُدوّنة إلكترونية»)، في مزج الميزات التي يعطيها موقع «يوتيوب» لتبادل أشرطة الفيديو، مع منافع المُدوّنات الإلكترونية. وسرعان ما ظهرت على الإنترنت بالصوت والصورة، أشرطة فيديو عن تعذيب المواطنين في أقسام الشرطة، وتزوير الانتخابات البرلمانية، وغيرها من الانتهاكات التي مارسها نظام مبارك. ثم بدأت إمارات الحمل تتضح أكثر فأكثر! حدثت جولات كبرى من الكرّ والفرّ بين قوات الأمن و«بلوغرز» الإنترنت. وسعى الإعلام الرسمي إلى هدم صدقية شباب الإنترنت، عبر إطلاق نعوت عليهم مثل «عيال الشبكة» و»عفاريت أثيرها». ... ثم ظهر «فايسبوك» دخل الحمل الثوري مرحلة حاسمة عندما استقبل الأثير العنكبوتي أداة جديدة نقلت شباب الإنترنت إلى مستوى مرتفع نوعياً من القوة، على رغم نعومتها. إذ ظهر موقع «فايسبوك» المخصّص لشبكات التواصل الاجتماعي. جاءت أولى ضربات «فايسبوك» مع دعوة الناشطة إسراء عبد الفتاح إلى إضراب يوم 6 نيسان (أبريل) عام 2008، تزامناً مع إضراب عمال النسيج في مصانع الغزل في مدينة «المحلة الكبرى» التي تتوسّط دلتا النيل. بعد نجاح كبير لتلك الدعوة، التي شاركت فيها رسائل الخليوي القصيرة بكثافة، اعتُقِلَت عبد الفتاح. وفي صيف 2010، لاقى الشاب السكندري خالد سعيد مصرعه على يد الشرطة، بعد أن اقتاده بعض أفرادها عنوة من مقهى إنترنت إلى أحد أقسام مدينة الإسكندرية. وآذن مصرعه بتسارع وتيرة الدعوات إلى التظاهر والاعتصام. وبدا أن الحمل بثورة شباب مصر دخل مرحلته الأخيرة، مع ظهور الناشطة السياسية أسماء محفوظ على «يوتيوب» و«فايسبوك». حيث أعلنت أنها «نازلة التحرير يوم 25 يناير (عيد الشرطة) 2011»، طلباً للكرامة والحرية. بدأ مخاض الثورة في هذا اليوم. وأسفر عن مفاجآت لا أول لها ولا آخر. وكالنار في الهشيم، انتشرت دعوات على «فايسبوك» إلى التظاهر، كانت أشبه ب «الطلق الاصطناعي». لاحت تباشير توحي بقرب خروج المولود إلى النور. وجرت الولادة عبر ملايين الرسائل القصيرة للخليوي، مع أعداد مماثلة من النقرات على زر «شارك» («شير» Share) في صفحات «فايسبوك». هذه المرّة، لم تكتف الملايين بكلمة «أعجبني» («لايك» Like) رداً على الدعوة إلى التظاهر، بل عملت «نزول» («داون لود» Download) في «ميدان التحرير»! يمكن القول أن أبرز دليل على نجاح الإنترنت وأدواتها في إشعال الثورة، هو قرار قطع الإنترنت لمحاولة سلب المتظاهرين هواء التواصل، ما عرّض الثورة الوليدة إلى الاختناق. وجدت الثورة طرقاً شتى لتحمي نفسها، في ظل غياب الإنترنت. وترنّح النظام. وتنحى الرئيس السابق. وخرجت الثورة إلى النور فعلياً. وكما يصاب المواليد الجدد بارتفاع نسبة الصفراء أو نقص في الأوكسجين، كذلك تُصاب الثورة المصرية بين الحين والآخر بأعراض مرضية، ثم تشفى على يد ثوّارها. وعلى رغم قرب بلوغها عامها الأول، إلا أنها مازالت تتعثر بين الحين والآخر. وفي كل عثرة، يعود الشباب ركضاً إلى الفضاء العنكبوتي. تتعاقب المليونيات. تتالى حملات المطالبة بمحاكمة رموز النظام. تتواتر الاحتجاجات على عدم الإسراع في إعادة أموال الشعب المنهوبة. واستعملت الثورة المُضادة الإنترنت أيضاً. وظهرت على صفحات «فايسبوك» دعوات إلى إحراق كنيسة، وإشاعات عن هرب فتاة من هذا الدين إلى ذاك، وغيرها. وعلى ألياف الإنترنت أيضاً، انتشرت دعوات هدفها ركوب موجة الثورة ونسبها إلى غير آبائها فعلياً. واستُعمِلت الإنترنت أيضاً في نشر كميّة هائلة من الاتّهامات المتبادلة، وفورات التخوين، وحملات تشويه صور الأطراف السياسيين بعضهم للبعض الآخر. على «فايسبوك»، تأسّست مئات المجموعات والصفحات لحشد الجهود وتجهيز العتاد لضرب فصيل سياسي في مقتل. ولأن الساحة الإلكترونية تعطي إمكان التفاعل، ظهرت تعليقات ومشاركات غابت عنها أخلاق «الميدان» الذي أبرز وحدة شعب مصر بمشاربه وأديانه وطوائفه وشرائحه الاجتماعية وفئاته العمرية وتفاوتاته الطبقية وغيرها.