دخول روسيا إلى الأسرة الأوروبية من بوابة منظمة الدول الصناعية الكبرى، حكم فكرها السياسي الذي جعلها تعيد صياغة الحياة بها على الطريقة الأوروبية، حتى تلتقي معها في منظومة استراتيجية جديدة لا تتخذ في المواجهة من السلاح سبيلاً وإنما ترتكز على الاقتصاد منهجاً تلقيت اتصالات عديدة تتساءل عن علاقة روسيا بإعادة ترتيب البيت الأوروبي، الذي جاء في آخر مقالي يوم الخميس الماضي 2 يونيو من عامنا الحالي 2005م، وكيف ستصبح روسيا جزءاً من ترتيباته الجديدة؟!، والإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى سعة صدر ووسع بال في مراجعة طبيعة العلاقات الأوروبية الروسية طوال الأربعة عشر عاماً الماضية من عام 1991م، الذي سقط فيه الاتحاد السوفياتي إلى عام 2005م، الذي ترسخت فيه القناعة بحتمية الأخذ بالتكتلات الاقليمية لموازنة العلاقات الدولية، تحت مظلة تعدد القوة في الأرض. يتجه الفكر العالمي إلى التكتل الإقليمي، ليس في ثوبه العسكري كما كان في الماضي الذي قام تحت مظلته الصراع السياسي «الحرب الباردة» بين الغرب والشرق الأوروبيين بسبب «الشلل النووي» الذي حد من القدرة في استخدام هذه النوعية من الأسلحة الفتاكة التي تدمر الأرض وما عليها، وترتب على ذلك قيام حروب إقليمية عديدة «من الباطن» من بعد الحرب العالمية الثانية إلى سقوط الاتحاد السوفياتي نيابة عن المعسكرين الغربي والشرقي، وإنما يأتي هذا التكتل في رداء اقتصادي بهدف عملقة الأقاليم المختلفة لترعى مصالحها التجارية بندية تحت مظلة التكامل الاقتصادي بين الأقاليم، وبدأت تتضح معالم التكتل الاقتصادي الأوروبي بدخول دول أوروبا الشرقية في الوحدة الأوروبية، بعد استقلالها من الاتحاد السوفياتي الذي سقط على يد ميخائيل جورباتشوف من خلال «البرويسترايكا» الإصلاح وإعادة البناء، دون أن تكتسب هذه الدول الأوروبية الشرقية عضوية ملف شمال الاطلنطي «الناتو»، في الوقت الذي تتمتع به تركيا بعضوية «الناتو»، ويحرم عليها كسب عضوية الوحدة الأوروبية، التي ترفض انتمائها إلى التكتل الاقتصادي الأوروبي لارتباطها الإقليمي بالشرق الأوسط، الذي في طريقه إلى تشكيل تكتل اقتصادي ظهرت معالمه من القمة العربية اللاتينية التي عقدت في البرازيل وحدثتكم عنها من على هذا المنبر الصحافي «الرياض» يوم الخميس 26 مايو من عامنا الحالي 2005م وهي مرفوضة من هذا التكتل الاقتصادي لتحالفها العسكري مع إسرائيل المرفوضة هي الأخرى باعتبارها الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية في اقليم الشرق الأوسط. فوجدت موسكو عاصمة الكومنولث الروسي، في الغرب الذي نكث بوعوده لآخر رئيس سوفياتي ميخائيل جورباتشوف بجعل الحياة في المدن الروسية، ترتفع إلى مستوى الحياة في المدن الغربية من بعد تخليها عن الشيوعية، وأدى الاخلال الغربي بالعهد والوعد إلى تدني مستوى الحياة في المدن الروسية إلى مستويات تقل كثيراً عن ما كانت عليه تحت مظلة الشيوعية التي كانت تضمن للإنسان المأوى والمأكل والملبس، وغياب هذا الضمان بعد تحرر روسيا من الشيوعية، دفع الإنسان المواطن تحت وطأة افتراش الطرقات، ومعاناة الجوع، ولبس الأسمال، إلى الثورة التي عرفت «بغضب الجماهير» في الشوارع، التي مارست السرقة بالقوة، وطالبت بالردة إلى الشيوعية، وأسقطت ميخائيل جورباتشوف من سدة السلطة والحكم في موسكو، بعد أن سفهة آرائه في الإصلاح وإعادة البناء ووصفته بالمغفل، ورفعت إلى السلطة نائبه بورس يلسن الذي بادر للخروج من الضائقة الاقتصادية بفتح «الحراج النووي» في موسكو، وباع به أسلحة نووية أو طرق صناعتها «لمن هب ودب» من دول ومنظمات، وبذلك دخلت إلى النادي النووي 35 دولة، وأعداد غير معروفة من المنظمات المختلفة غير المشروعة بعملها خارج مظلة أحكام القانون الدولي العام مما ضاعف الخطر النووي على الأرض، بصورة زادت الخوف من الإرهاب الدولي، الذي يجعل محاربته بعيداً عن «تعريف الإرهاب» يزيد من احتمالات عدوانية بأسلحة الدمار الشامل النووي وغير النووي ليس من الدول حديثة الملكية له لأنها تسعى به إلى تحقيق الشلل النووي في داخل أقاليمها، لتحقق به التوازن تحت مظلة أحكام القانون الدولي العام، التي تحكم العلاقة بين الأسرة النووية في الأرض، فلا خوف من امتلاك الهند والباكستان للسلاح النووي لأنه فرض التوازن بينهما في شبه القارة الهندية، وتحت مظلة هذا التوازن أعلنت نيودلهي واسلام أباد أن المباحثات بينهما تقترب من إيجاد حل عملي لمشكلة كشمير المستعصية على الحل طوال عقود زمنية ماضية باقتسامها لاقليم كشمير منذ استقلالهما، ولا ضرر من امتلاك إيران أو غيرها من دول الشرق الأوسط للسلاح النووي لتوازن نفسها مع القدرة النووية الإسرائيلية في داخل إقليم الشرق الأوسط، وهو مسلك استراتيجي طبيعي في ظل العداء المتواصل بين العرب، ويستند إلى تجربة استراتيجية دولية سابقة قامت بين المعسكرين الغربي والشرقي فوق المسرح العالمي طوال مرحلة زمنية تقرب من نصف قرن خشية الدول الغربية من اتساع الانتشار النووي ببيعه مصنعاً، أو ببيع سبل تصنيعه على الدول والمنظمات أو الجماعات الخارجة على أحكام القانون الدولي العام، دفع هذا الخوف منظمة الدول الصناعية السبعة الكبرى إلى «مقايضة» الحراج النووي الروسي، مقابل اعطاء روسيا عضوية منظمة الدول الصناعية السبعة الكبرى، وبعد أن أصبحت روسيا ثامنتهم فتحت أمام موسكو آفاق اقتصادية دولية واسعة أكسبتها التأثير في الحركة التجارية الدولية، التي ترتب عليها إعادة الاستقرار السياسي في داخلها، بعد الفوضى التي سادت بها في أعقاب ثورة «البرويسترايكا»، وبررت الدول السبع أمريكا، وكندا، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وايطاليا، قبول روسيا في زمرتهم جاء وفاء منهم بالوعد الذي قطعه الغرب على نفسه برفع مستوى حياة الإنسان في روسيا إلى مستوى حياة الإنسان في الغرب، للرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل جورباتشوف، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً بما كتب وعبر اللقاءات المختلفة معه، عن دوره الإيجابي في القضاء على الشيوعية ببلاده الذي نتج عنه رغد العيش للمواطن في روسيا لينفي عن نفسه الغفلة التي نعته بها الشعب الروسي. دخول روسيا إلى الأسرة الأوروبية من بوابة منظمة الدول الصناعية الكبرى، حكم فكرها السياسي الذي جعلها تعيد صياغة الحياة بها على الطريقة الأوروبية، حتى تلتقي معها في منظومة استراتيجية جديدة لا تتخذ في المواجهة من السلاح سبيلاً وإنما ترتكز على الاقتصاد منهجاً، وقامت في سبيل ذلك سلسلة متصلة من المفاوضات بين موسكو وبين العديد من عواصم الدول الأوروبية الراغبة في بناء كتلة اقتصادية أوروبية قوية تعطيها حرية الحركة في العلاقات الدولية استناداً إلى استقلالية القرار السياسي، واطلعت روسيا الدول الأوروبية أنها تسعى إلى إيجاد روابط بين الكتلة الاقتصادية الأوروبية، وبين الكتلة الاقتصادية الآسيوية، التي بدأت تتضح معالمها بالتقارب بين الصين والهند، والتناغم السياسي لأول مرة بين الهند والباكستان، الذي تجلى عزفه حول اقليم كشمير، ولا يخفى فوق المسرح السياسي الآسيوي الغزل السياسي مع أندونيسيا، وقبل أيام قليلة ماضية عقد اللقاء في بكين لوزراء خارجية الصين وروسيا والهند والباكستان واندونيسيا، ولم تحضره اليابان التي دعيت إليه لتردد طوكيو في الاختيار بين الاستمرار في روابطها مع الكتلة الاقتصادية الأوروبية أو أن ترتبط مع الكتلة الاقتصادية الآسيوية، على الرغم من محاولة موسكو اقناع طوكيو بأن التنسيق بين الكتلتين الاقتصاديتين في أوروبا وآسيا قضية منتهية بالاتفاق المبدئي على التعاون بينهما. ترمي روسيا من التنسيق بين الكتلتين الاقتصاديتين الأوروبية والآسيوية إلى تبوء مركز الصدارة في الكتلة الأوروبية، وقد دفعها ذلك إلى استضافة الاحتفال بمرور ستين عاماً على انتصار الحلفاء على دول المحور بزعامة ألمانيا النازية لتثبت دورها العسكري في هذا الانتصار، ودار في الاحتفال حوار حاد مع أمريكا حول الديمقراطية بأساليبها المختلفة وفقاً لاختلاف الزمان والمكان، وأعلن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتن بأن الديمقراطية في بلاده تفوق من حيث الفكر والتطبيق الديمقراطيات القائمة في الدول الأخرى وأعلن بأن مرحلة التصادم بالسلاح قد انتهت بلا رجعة وأن التوازن في الأرضي سيتحقق بالتكتل الاقتصادي لأنه لم يعد مقبولاً من الأسرة الدولية الاستمرار في النظام الدولي الأحادي الذي يقوم على أساس الدولة الواحدة القطب.