قبل سنوات طويلة وصلتني رسالة من فتاة صغيرة اسمها نورة. تقول في رسالتها إنها تشعر بخوف شديد من المجتمع لدرجة أنها لا تقول أو تفعل ما تريد ، بل ما يريده المجتمع منها . طبعاً هي تطلب النصح ولكنها أخطأت في ذلك لسببين. أولا : أنا فاشل في إعطاء النصائح حتى لنفسي . ثانيا : أنا في الواقع خائف أكثر منها . مع ذلك يمكن القول لها ولنا جميعا ان هذا إحساس الكثير من الناس وعلى ما يبدو أن الجميع يخاف من الجميع. هذه بداية متشائمة ولكن لا يعني أننا غير قادرين على التقليل من سلطة المجتمع، الناس ، الرأي العام علينا . العكس هو الصحيح . نحن قادرون على أن نقلل من هذا الإحساس المزعج بأن المجتمع يراقبنا ، وبإمكاننا أن نضعف من حركتنا المهووسة الدائمة للحصول على رضاه وقبوله.طبعاً هذا مهم جدا لأننا كلما قللنا من هذا الخوف ننجح في استعادة شخصياتنا الحقيقية التي يمحوها هذا الخوف الرهيب. لن تستمع لوشوشات المجتمع في أذنيك إذا أخرجته من عقلك. السؤال إذن كيف نخرجه ؟!. إذا عرفنا كيف دخل إلينا وأثر فينا. نفسياً نحن متورطون بفكرة أننا لا نجد قيمتنا ووجودنا إلا إذا كنا داخل جماعة . يحدث هذا أكثر في المجتمعات التقليدية أو المهزومة التي يبحث فيها الأفراد عن ذاتهم من خلال الانضمام إلى الجماعة . يمكن أن نرى ذلك في التجمعات القبلية والعائلية حيث يضيع الفرد في هذا المجموع. طبعاً ميزة هذا الانضواء أنه يقدم للشخص راحة عميقة مخادعة بأنه يمثل شيئا أكبر منه حتى ولم يفعل هذا الشخص أي شيء . يكفي أنك ولد فلان ولا أبوك التاجر الفلاني أو طائفتك هذه حتى تشعر بالشعور بالاحترام الذي يبحث عنه أي انسان. طبعا هذه أول الأخطاء التي تمنح الفرصة للمجتمع لكي يتقوى علينا. الحل المناسب لردعه هو أن الشخص لا يجب أن يبحث عن القيمة المجانية التي يمكن أن يكتسبها أي شخص لمجرد أنه منتمٍ لجماعة ولكن قيمته فردية ويكتسبها بنفسه وليس بحاجة إلى الآخرين كيف يعرفون عنه. هذا مرتبط بالاعتماد العاطفي على الآخرين بشكل كامل. هذا الخطأ النفسي الثاني الذي نرتكبه. فأنت لا تشعر بالرضا عن نفسك إلا إذا شعرت أن الآخرين راضون عنك أو على الأقل غير غاضبين منك. في هذا الحالة ستصمت عن كل آرائك وقناعاتك وتقمع مواهبك التي تعتقد أنها تغضبهم منك. هذا يذكرني بصديق تماسكه العاطفي قائم على مدى رضا أصدقائه عنه ويشعر بكآبة وحزن إذا سمع كلام سيئا قيل من وراء ظهره. هو في هذه الحالة ألغى نفسه من أجل أن يحظى بحب أصدقائه.وهذا حالنا مع رأي الناس فينا فنحن نسعى أن نقدم للناس كل شيء حتى يحبونا ولا يغضبوا علينا حتى لو ألغينا كل ميولنا. كأن الواحد منا يقول دائما " أنا مثلكم . تكفون حبوني !" . رضانا الداخلي قائم أساسا على رضا الناس وسمعتنا هي ما يقوله الناس عنا . من هنا نمنح المجتمع فرصة لكي يمسخنا ويتلاعب بنا. رضا الشخص الداخلي يجب أن ينبع من داخله ولسنا بحاجة إلى أن يرضى عنا الآخرون حتى نحب أنفسنا ونرضى عنها. بهذه الطريقة نستطيع أن نقول ما نريد وما نؤمن به بدون أن نشعر بالكآبة والحزن لأن أحداً سخر منا أو شتمنا . هذه هي الحياة نتعرض فيها للسخرية والغضب ولكن لا يفترض أن نتنازل عما نقول لأنه لا يعجب الآخرين، فقط نتنازل عنه إذا لم يعجبنا نحن. بهذه الطريقة يخف إحساسنا بإرضاء المجتمع والخوف من غضبه. هذا أيضا يكشف عن معادلة الحب المشروط وهي معادلة ملفقة. يعني أنا أحبك بقدر ما تخضع لي وتنفذ توجيهاتي ولكن بمجرد أن تنحرف لو بسنتميتر واحد فستكون مكروها . هذا حب مدفوع الثمن والشخص ليس بحاجة له . كأنك تقدم للمجتمع المال ( في هذه الحال آراؤك وقناعتك وميولك التي تسكت عنها) ولكن بمجرد أن يتوقف الدفع ينقلب الجميع عليك. لكن معادلة الحب الصحيحة هي أن تحبني كما أنا حتى لو اختلفت معي.مثلا الكثير من الفتيات محبوبات لأنهن يلتزمن بالقواعد المطلوبة ولكن لو قررت أي واحدة منهن أن تخرج وتصبح ، لنقل ، مذيعة تلفزيوينة، ( حتى لا أقول مطربة او ممثلة) فإن الغالبية ستهاجمها. في هذه الحالة هي ليست بحاجة إلى حب الناس المشروط حتى ترضى عن نفسها. ولهذا السبب أنا معجب جدا بشجاعة الفنانين الذين استطاعوا أن يتحدوا سخرية المجتمع واحتقاره لهم ، واستطاعوا في النهاية أن يجعلوا هذا المجتمع الساخر ينهزم أمامهم وهو يصفق لأغنياتهم. إذا استطعنا أن نتخلص من هذه العوائق النفسية فإن علينا أن نتخلص من العوائق الفكرية المتداخلة معها. كل واحد منها لديه أفكاره الخلاقة ومواهبه وطاقاته الكامنة ولكن المجتمع مثل المؤسسة البيرقراطية التي تغريك بالمال ( الرضا والقبول والأمان) في مقابل أن تتخلى عن ذلك. النتيجة أن عجلات هذا النظام تطحنك ولن يتذكرك أحد وستكون في ختام المطاف خسرت نفسك لأنك كنت خائفا منه. الموقف الفكري الذي يجب أن نتنبه له هو أن نكون خلاقين وناقدين ولا نقبل أن تطحننا عجلات المجتمع التي لا ترحم. كلنا يعرف أن أكثر الأشخاص الذين تبنوا الفكر التجديدي الخلاق هم الأشخاص الذين تركوا أثرهم في الحياة والأهم أنهم عبروا عن أنفسهم ولم يزيفوها . بكلمات ثانية ، أخرجوا المجتمع من عقولهم وتصرفوا كما يحبون. . المفارقة أن الأشخاص الذين يغضب عليهم المجتمع هم الذين يبثون فيه الروح لأن لديهم دائما ما يضيفونه. ونلاحظ أن روح الإبداع تنتشر في المجتمعات التي تخف فيها سلطة المجتمع على الشخص لأن الشخص يعبر عن نفسه بدون خوف من أحد لذا يخرج كل طاقاته ومهاراته. أخيرا يمكن القول لهذه الفتاة الخائفة ولنا جميعاً ، الخوف من المجتمع هو أكثر الأشياء التي تشل قدراتنا وتحرمنا من المواهب الجديدة والعقول الشجاعة والتجارب الفريدة . والحقيقة انه بقدر ما نعاكسه نساهم بإنعاشه حتى لو غضب أو سخر أو ألقى التهم والشتائم. الفرد أقوى من المجتمع لو أراد.