مرّ زمن طويل مذ وقفت لآخر مرّة، لأتحدّث عن كتاباتي. قضيتُ نصف عمري أدافع عن الذاكرة.. ويبدو أنّني سأقضي ما بقي من عمر أمجّد النسيان. كنتُ أنتسبُ “لذاكرة الجسد”، وغدوتُ بعد “نسيان com” حارسة النسيان ومحاميته. لم أنشق عن حزب اللهفة الأولى. لكن وجدتني على رأس حزب نسائي في شساعة العالم العربي يناضل ضد الاستبداد العاطفي للذاكرة. لا أدري على أيامنا أيّهما الأسوأ سمعة: الذاكرة أم النسيان؟ ففي أحدهما خيانة لسعادتنا. وفي الثاني خيانة لمن أحببنا. فهل صعب إلى هذا الحدّ الحصول على نسيان جميل نقيم فيه كذكرى. دون أن نتحرّش بشجرة الذكريات، فنسقيها في كلّ مناسبة بالحنين والانتظار والدمع والندم. النسيان لا يطرح وردًا في الموسم الأوّل. يحتاج إلى فصلين، أو ثلاثة قبل أن يزهر، في انتظار ذلك، يطرح كتبًا وأشعارًا وروايات، أزهرت منذ الأزل في مكتبات العالم. لذا أن تشرح كتابًا عن النسيان كأن تشرح عطر وردة. الغصن نفسه الذي يحملها لا يستطيع ذلك. طُلب منّي أن أحدّثكم بالذات عن “نسيان com” وأظنني قلت كلّ شيء داخل الكتاب، وليس على الكاتب أن يقول شيئًا خارج دفتي كتبه. اعتقدتُ دائمًا أن العلاقة بين القارئ وكاتبه المفضّل لا تختلف عن أيّة علاقة عاطفيّة، بكلّ ما فيها من غواية وفضول عشقيّ، ومسافة للترقّب، ومساحة للتخيّل. وكما في الحبّ عندما يعرف اثنان عن بعضهما كلّ شيء، عليهما أن يفترقا، فموت الغموض، ورفع الحجب إيذان بموت الاشتهاء، ونهاية الشغف، ومن هنا أتّفق مع قول بروست “أن تشرح تفاصيل رواية، كأن تنسى السعر على هديّة”. غير أنّي أتفهّم فضول القرّاء في ما يخصّ هذا الكتاب بالذات. فهو ليس “هديّة”حسب قول بروست.. بل هو “الهديّة”، التي حين تفتحها لا تعثر داخلها سوى على نفسك. كأن يُهديك أحدهم دموعك، وأرقك، وندمك، وحنينك، ولهفتك، وتنهداتك، وأمنياتك، وكلّ ما كنت تقوله سرًّا لنفسك، وتوقّعت أن لا أحد يدري به أو يُشبهك فيه. ينجح كتاب عندما يكاد القارئ أن ينسبه إلى نفسه، ولا يفهم أن تكون قد سرقتَ الكلمات من فمه، والحبر من قلمه، وسطوت على قصّة حياته. بلى.. الكاتب سارق، ما من شيء يقع عليه سمعه، إلّا ويُلقي به في خوابي الحبر، بانتظار أن يُصبح لاحقًا نصًّا معتقًّا لا أحد يدري من أيّ حقل تمّ قطف عنبه. ذلك أن الكتابة أمانة، واختبار خُلقي. إنّها لا تمنحك حقّ فضح أسرار من ائتمنك على جرحه. حقّك ككاتب يقتصر على اختيار مساحيق وأقنعة تحمي عري الكلمات وصدقها. هنا تكمن محنة الكاتبة العربيّة. إنّها تقترف جرائم حبر في حقّ نفسها، تتعرّى نيابة عن قرّائها. فهي موجودة في كتاب لتقول ما لا يجرؤ أحد على قوله.. أو ما لا يعرف غيرها كيف يقوله. إنّ أخطر من خلع المرأة لباسها في كتاب، تعرّيها على مستوى هواجسها. فهي بذلك تعرّي الرجل، وتعرّي المجتمع فردًا، فردًا. بينما بخلعها ثيابها هي لا تعرّي سوى معدنها، ولا تكشف سوى عن عورتها الإبداعيّة، وعن قلّة حيلتها، وقلّة حيائها. فالمرء يوقّع بأصله لا بقلمه. إن كنتُ لا أعتبر الحياء أدبًا. فأنا لا أرى في البذاءة إبداعًا، الإبداع هو ذكاء اللغة، والمراهنة على قارئ يُسعده أن يشعره الكاتب بأنّه أذكى من أن يقول له كلّ شيء. وأن يترك له هامشًا للخيال، مساحة للتوهّم، يُشارك فيها الكاتب في إكمال نصّه، والتماهي كيفما شاء مع أبطاله، حسب مزاجه وقناعاته. لذا يوجد من كلّ كتاب نسخًا مختلفة بعدد قرّائه. فالقارئ شريك في الكتابة، ومن دون شراكته لا أمل لكتاب بالنجاح. أعتقد أنّ القارئ يبحث عن كاتب يُبادله الاحترام، أيّ لا يستخفّ بذكائه. ذلك أنّه قد يغفر للكاتب اختلافه معه في الرأي، لكن لا يغفر له قلّة صدقه أيًّا كانت درجتها. كيف لامرأة إذن أن تكون صادقة، وهي دائمة الخوف على كلّ شيء، ومن كلّ شيء. لذا تظلّ الكتابة أكبر مغامرة نسائيّة تستحقّ المجازفة، إنّها تمرين يوميّ على الحريّة، وما الحريّة بالنسبة لي سوى أن تكون حرًّا في اختيار قيودك، لا أن تكتب ما تشاء دون قيود. في “نسيان com” كما في كلّ ما كتبت، تقيّدتُ بالارتقاء بالأحاسيس حتى قبل الارتقاء باللغة. فمن دون أحاسيس جميلة حتى في خيبتها وألمها لا يمكن أن تصنع كتابًا جميلاً. تحاشيت بالسخرية كلّ ما يمكن أن تنصبه لي الصراحة من فخاخ، في موضوع يحتاج إلى لغة واضحة ومباشرة، في كتاب لا أصنّفه في خانة الأعمال الأدبيّة. ثمّة متعة شاهقة في أن تقول أكثر هواجسك حميميّة بلغة تمويهيّة ساخرة.. دون ابتذال. لقد استمتعتُ كثيرًا بتفخيخ كتاب “نسيانcom” بإيحاءات مواربة، حرصتُ على أن أغلّف خبثها الأنثويّ بمسحة حياء تهكّمي، لم أتصنّعه، لأنّه جزء من شخصيّتي في كلّ أوجه تناقضها. أعجب عندما يقول بعض من لم يقرأني، مستندًا إلى عناوين كتبي، أنّني كاتبة الجنس الأولى في العالم العربي. ليس في الأمر تهمة، لكنّها مغالطة كبيرة، لا بدّ لي في هذه المناسبة النادرة من توضيحها. أذكر أن الدكتور سهيل إدريس -رحمه الله- قال لي بروحه المرحة ممازحًا بعد اطلاعه على مخطوط “ذاكرة الجسد”: “شو هيدا هلكتينا، بس قبلة واحدة في أربعمائة وست عشرة صفحة.. ما كان فيكي تزيديها شي شوي!” لكن قبلة خالد لحياة بعد عمر من الانتظار علقت على شفاه كل القرّاء، وستعيش قشعريرتها إلى الأبد ما عاش الأدب. على الذي يقرب الجنس أو يحوم حوله، أن يفعل ذلك بشاعرية عالية إن كان يعنيه أن تُقيم كتبه في بيتنا. ذلك أنّ ما يكتبه البعض، وينشره مزهوًّا على آلاف القرّاء، يستحي المرء أن يقرأه حتى عندما يكون وحده في غرفته. إنّه الحياء، وقد قال أفلاطون “الأدب أن يستحي المرء أوّلاً من نفسه”. لقد كتبت فرنسواز ساجان ستين كتابًا لا مكان فيها لمشهد جنسيّ واحد، بينما أصبح الجنس المشهد الأوّل في أوّل كتاب يُصدره كاتب أو كاتبة عربيّة على أيّامنا. هؤلاء الذين ذهبوا بعيدًا في الفضيحة، لم يذهبوا أبعد في الشهرة، ولن يخطوا خطوة نحو الخلود. الخلود شأن آخر، لا يعني سوى الذين يخافون حكم التاريخ، ويثقون أن للكاتب واجبًا أخلاقيًّا وأدبيًّا تجاه هذه الأمّة. في محاضرة ألقيتها قبل سنوات، في ثانوية ببيروت، كانت أعمالي ضمن برنامجها الدراسيّ، وقفت إحدى الأمهات وقالت لي: “إنّنا نأتمنك على أولادنا؛ لأنّهم يقرؤونك بنهم.. تذكّري أنّ لك قدرة على توجيههم كيفما شئت”. فقدتُ صوتي أمام أمّ أولادها في عمر أولادي، واغرورقت عيناي بالدموع. فأنا ما اخترتُ أن أكون مرشدةً أو واعظةً. أنا مجرّد كاتبة تلعب بكبريت الكلمات، وكثير على فراشة قلمي قيد كهذا. لم يفارقني هذا الإحساس بالمسؤوليّة حتى وأنا أكتب كتاب “نسيان com” الموجّه لنساء بعضهن في عمري. كنت أدري أنّ البؤس العاطفي في العالم العربي سيجعل هذا الكتاب الأكثر انتشارًا بين كتبي، وخفتُ أن يعبث قلمي بقدر نساء محبطات مدمرات استنجدن بي، فيوجّههن إلى مسالك قد لا يعدن منها سالمات. أعتقد أنّ هذا الكتاب على بساطته هو أخطر أعمالي قياسًا بتأثيره الحاضر والمستقبلي على أجيال من النساء. لذا حرصتُ بين الممازحة والجد، ألّا أسدي للنساء من النصائح إلّا ما أرى فيه هداية لهنّ، وإعلاءً من شأنهن مستعينة بترسانة من الأقوال والأشعار والنكت والعبر والمواعظ الدينية، التي تقوّي عزيمة المرأة أمام محنة الصدمات العاطفيّة. ذلك أن النسيان موضوع تراجيدي في العمق. ليس وحده الشيطان يُقيم في التفاصيل الصغيرة، الذاكرة أيضًا. ومن الذاكرة يتغذّى الأدب الذي يعيش أساسًا على الحفريّات العاطفيّة. هل من حقيبة أحقّ بتوضيب النسيان من كتاب؟ وهل من إنسان أولى من كاتب لنجدة قارئ؟ أقول مع كامي لورانس: “بماذا يفيد الأدب إن لم يعلّمنا كيف نحبّ؟”، وأسأل “هل ما زال بإمكان كتاب أن ينقذ قارئًا؟”. بعد أن أودت كتب أخرى بقرّائها إلى حتفهم؟ إن كتاب غوتة “آلام فيرتر” قد تسبّب في القرن الماضي بموجة من الانتحارات وسط الشباب الألماني تماهيًا مع بطله، وتماشيًا مع أحزان تلك الحقبة. لكن ذلك الزمن ولّى. وغدا الكاتب اليوم يباهي بعدد القرّاء الذين أنقذهم من الكآبة والنزعة إلى الانتحار. عندما شرعتُ في كتابة “نسيان com” لم تكن لي أمنيات شاهقة إلى هذا الحدّ، ولا توقّعت أنّ موقعًا أسّسته على الإنترنت لأهدي حضانة عاطفيّة لنساء أفقدهن ألم الفقدان شهيّة الحياة. يصبح ملاذًا لكثير من إناث مطعونات ونازفات إلى حدّ أنّهن كنّ جاهزات لأخذ قرارات خطيرة ضدّ أنفسهنّ. ممّا جعلني أهبّ لنجدتهنّ هاتفًا بعد آخر. قبل أن تتكفّل بمتابعتهن نساء أخريات في الموقع نفسه. حتى الآن لا أفهم كيف وجدتني متورطة إلى هذا الحدّ في حياة قرّائي. ولا أدري مَن أقنع النساء حتّى قبل هذا الكتاب، بأنّني خبيرة في شجون القلوب، وطبيبة النفوس المجروحة، والأنوثة المغدور بها. وكأنّ الكتابة عن الحبّ أعطتني قدرات خارقة لكتابة تعويذات للشفاء منه، وفكّ مفعول سحره. وهكذا أنفقت في الاستشارات العاطفيّة وقتًا ضائعًا من أعمالي الأدبيّة. برغم ذلك لستُ نادمةً. إنّ بثّ روح التفاؤل واجب على كاتب يملك سطوة التأثير على قرّائه، وبإمكانه بكلمات منتقاة، وبذكاء في توجيه مسار أبطاله انتشال الكثيرين من الحزن المدمّر، والكآبة التي تفتك بأمّتنا. فلا يمكن أن نواصل تمجيد الألم والخيبات في كلّ ما نكتبه. إنّ إعادة أعمار الروح وصون المشاعر الجميلة هي فضاء الأدب بامتياز، ومسؤوليّة الكاتب العربي اليوم تتجاوز منح القارئ مزاجًا جميلاً وهو يطالع كتابًا، إلى واجب خلق ثقافة السعادة التي تدين لها كثير من المجتمعات في العالم ببناء أوطان قويّة. أعجب كثيرًا كيف أن كتابًا كهذا لم يكتب بعد باللغة العربية. ولمن ترك إذن كتابنا مهمّة مسح كلّ هذه الدموع. ذلك أن الكتابة فعل تواصل واعتراف بفاجعة الضعف الإنساني أمام العواطف. كانت الصديقات من حولي تتساقطن الواحدة تلو الأخرى في جحيم الفقدان، وكانت المأساة تصلح لإذكاء وقود الكتابة. فهل بإمكان كاتب أن يفوّت رواية تبحث عنه؟ من أجل رواية يبحث عنها؟ لا أدري إن كان عليّ أن أحزن لأنّ روايتي “الأسود يليق بك” قد تأخّرت بسبب هذا الكتاب. لكن كما قصص الحبّ، للكتب أقدارها ومصادفاتها. فالكتب هديّة الحياة. وكما القطارات، يحدث لكتاب أن يخفي آخر. فالكاتب لا يعرف وجهته، ولا أيّ قطار استقل. يخدعه الطريق دومًا كلّما جلس للكتابة. هذا الكتاب الذي كان حادث سير أدبي في حياتي، غدًا حدثًا. لأنّ البؤس العاطفيّ كان المعلن والموزّع الحصري له في كلّ البلاد العربية. نجاحه يكمن أيضًا في كوني كتبته بالمتعة والخفّة التي ينبغي أن تكتب بها المواضيع الأكثر ألمًا. إنّه كتاب دون إبهار لغويّ. أردته بسيطًا كوشوشات، صريحًا كنصيحة.. قريبًا كدمعة. هو كتاب القلب، وقلب المرأة يرى أكثر من عيون عشرة رجال يقول مثل سويدي. فليقرأه الرجال بقلوبهم عساهم يرون بعيون النساء كم من الدمار ألحقوا بنصف سكان الكرة الأرضيّة.